الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

اسس المقاربة التشاركية لإنسانية ثقافة التعددية في ضوء آليات العدالة الانتقالية

د. نهى الدرويش
المستخلص

الخالق.... هو  الجامع لمصادر وجود البشر
الحق.... هو الجامع لبقاء البشر
العدالة ....هي الجامع لتعايش البشر
السلام.... هو الجامع لتميز البشر
وبدون الخالق والحق والعدالة والسلام  ما كان للبشر وجود ولن يكون له بقاء أو استمرار، لذا فان صلاة البشر للخالق إنما هي صلة التواصل مع الحق والعدل والسلام ، وتحقيقنا لهذه الصلة في حياتنا اليومية تعني أننا نصلي للخالق على مدار الـ 24 ساعة يوميا فكم واحد منا حقق ذلك ؟
هذا ليس مدخلا فلسفيا لإيجاد أسس لإنسانية الثقافة بين البشر بقدر ماهو منطلق واقعي لبناء علاقة تشاركية لأسس التعايش السلمي بين البشر والذي هم بأمس الحاجة اليه ليس لإنهاء الصراعات والخلافات والحروب فقط وإنما لاعتناق السلام نفسيا والقضاء على أعراض الاغتراب الحضاري والتأسيس لخصائص شخصية المواطن العالمي وهويته الإنسانية التي لابد أن تتجاوز عصبية واستبداد وتحيز الهويات الفرعية والتي هي في الأساس  وجدت لتعزيز هويته الإنسانية الا انه حولها من انتماءات هادئة الى تبعيات صراعية أبعدته عن قيم الحق والعدل والسلام ففقد نعمة التعايش السلمي وصار يرجم السلطات التنظيمية بسجيل عقده العنصرية .   
إن التعددية المذهبية حقيقة قائمة في الكثير من دول  العالم  والبلدان العربية والإسلامية، ولا يمكن التغافل عن هذه الحقيقة أو متوالياتها ومتطلباتها، لذا تظهر الحاجة إلى نظام اجتماعي ثقافي سياسي، يحمي هذه الحقيقة ويحترم خصوصية التعدد، ويوفر للجميع على حد سواء الحماية والحرية وحق التعايش السلمي الذي يتطلب توافر الاستعداد النفسي والاجتماعي والأخلاقي لبناء علاقة قبول متواصلة مع الآخرين، وفسح المجال لبناء علاقة سوية وسليمة بين جميع الأطراف والمكونات.  والاعتراف بالآخر، إذ لا يمكن أن ننطلق في مشروع التعايش السلمي مع الآخرين دون الاعتراف بوجودهم وآرائهم وأفكارهم، وهذا الاعتراف هو الذي يقود إلى مشروع التعايش على أسس واضحة ومثمرة.
إن التعايش في مضمونه وآفاقه ينطوي على دعوة عميقة وجوهرية لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، بعيدا عن الذاتية التي تسقط على هذا الآخر عصبيتها الاجتماعية والفكرية. وهذا يقتضي الحوار المتواصل والمستديم بين جميع الأطراف والمكونات، حتى يتسنى للجميع المعرفة المتبادلة واكتشاف الآخر بعيدا عن المسبقات والقناعات الجاهزة.
ولابد لنا أن ندرك أن التعددية المذهبية في مجتمعنا ليست عيبا يجب إخفاؤه ولا عبئا ينبغي التخلص منه، وإنما هي حقيقة تاريخية واجتماعية ينبغي التعامل معها بحكمة وروية وبعد نظر.
كما إن احترام التعدد الديني و المذهبي يعني حماية نتاج الحوار والبحث المضني المتواصل عن الحقيقة، وهو حماية للتعدد الديني و المذهبي في الدائرة الوطنية, وحماية القيم والمبادئ التي أنتجت ثراء ثقافيا وفكريا وعلميا في التجربة التاريخية العراقية .
إن أولى الخطوات في مشروع صياغة العلاقة الإيجابية بين الأديان والمذاهب هي إحلال ثقافة التعايش السلمي والعمل بها . لذا فأن الخطوة الأولى في مشروع إعادة صياغة العلاقة بين الأديان أو المذاهب في الفضاء الوطني هي رفض الطائفية بكل مسوغاتها وتبريراتها, والتي هي في المحصلة النهائية تسهم في تمزيق المجتمع وتفتيت الوطن.
فبدون محاربة الطائفية ونقد أسسها الثقافية والسياسية ومرتكزاتها العقائدية والفكرية لن نتمكن من بناء العلاقة بين مكونات الوطن المذهبية والسياسية على أسس العدالة والاعتراف والاحترام المتبادلين.
     تعد الذاكرة موضوعا حقوقيا بامتياز لانفتاحها على حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية في مختلف تجلياتها ليس في بعدها القطري فقط بل وكذلك في امتداداتها الدولية وتشكيلها لنسيج النظام العالمي الذي يناضل الديمقراطيون من اجل جعله محتكما إلى المبادئ الحقوقية السامية والمشتركة والمواثيق والمعاهدات الدولية ... هكذا تبدو الذاكرة عنصرا أساسيا في هذه المسألة، وخاصة كآلية للحوار وأساس التشاور بعيدا عن مقاربة الغالب والمغلوب بفتحها لفضاء الحوار ومأسسته وفق مبادئ جديدة.

 
إن الخروج بالاشتغال حول الذاكرة من مقاربة المظلومية إلى بناء العلاقة الإستراتيجية، يشترط الاشتغال حول الذاكرة الذاتية. فبالرغم من منهجية جبر الضرر هناك ملفات كثيرة مرتبطة بالذاكرة الوطنية وتحتاج إلى معالجة ستساعد على الخروج من الأزمة كما ستساعد على المضي قدما في إعادة بناء العلاقات مع المحيط المحلي والإقليمي وتمتينها. وهذا التأثر بين الوطني والدولي يجب الاهتمام به لمعالجة موضوعية وناجحة للذاكرة المشتركة  لكن في هذا المستوى، يبقى المطلوب كذلك إعادة قراءة المواضيع المشتركة قراءة عراقية لبناء المقاربة ومعالجة المعلومات وضبط المعطيات .
في المجتمعات المتحولة نحو الديمقراطية من الصعب جدا أن نتحدث عن تعايش سلمي بين مكونات المجتمع دون إنجاح العدالة الانتقالية على الصعيد الوطني.
 وعلى مستوى تفعيل التعايش السلمي ، هناك مراوحة بين الماضي والحاضر نحو المستقبل، لان هذا النوع من التفعيل لا يمكن أن يكون أحادي الاتجاه بشكل خطي من الماضي نحو الحاضر. كما أن هناك ضرورة لإشراك كل الأطراف والفاعلين كل حسب اختصاصاته ومهامه واهتماماته. لأن مفهوم الذاكرة والاشتغال حولها مسألة تهم كل المواطنين والمؤسسات الوطنية  لذا ينبغي :
1.     سن القوانين التي تجرم وتعاقب كل مواطن يمارس التمييز الطائفي،بوصفه تمييزا عنصريا  فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة, تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي بوصفها جرما يعاقب عليه القانون.
2.     تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية، فلا يمكن إنهاء المشكلة الطائفية إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذيها وتمدها بالأسباب والمبررات. ومن ذلك تنقية المناهج الدراسية من المفردات التمييزية والتحريضية المباشرة وغير المباشرة ومن المفردات التي تطعن أو تهمش الأديان والمذاهب الأخرى أو تطعن في عقائدها ورموزها التاريخية.
3- بناء ثقافة وطنية جديدة قوامها الوحدة الوطنية واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان، إذ لا يمكن إنهاء المشكل الطائفي دون إرساء ثقافة اجتماعية ووطنية جديدة تعيد الاعتبار للوحدة على أساس احترام التنوع, وتتعامل مع تعدد الاجتهادات الفقهية والفكرية بوصفها من الحقائق التي تثري المجتمع والوطن
4- معالجة إشكالية "الذاكرة  المشتركة" في بناء المستقبل ضمن مقاربة العدالة الانتقالية التي لا تجعل غايتها جبر الضرر فقط بقدر ما تركز على تقريب الآراء ومد الجسور لتجاوز التناقضات والاختلافات والخروج من منطق اللاتوازن بين الأطراف لبناء القاسم  المشترك على أسس جديدة تقوم على احترام الآخر وتثمين المصالح المشتركة والتضامن المجتمعي والوطني
5- التركيز على تنمية الذاكرة المشتركة في مختلف المبادرات التنموية لكون ذالك يحقق شرط إدماج عنصر العدالة الاجتماعية والاستدامة اللذان يوفران المحيط المحفز للجميع .
6- اعتبار" سؤال الذاكرة  " مشروعا وطنيا للجميع  مفتوحا ومنفتحا على المستقبل يوفر حرية التعبير واحترام الذاكرة الفرعية في أطار المواطنة المحلية والإقليمية والعالمية .
7- إعمال وإشاعة ثقافة الحوار والفكر التركيبي والعقل التواصلي والذهنية الوسطية فضلا عن المنطق التوليدي في تجاوز الأزمات.
8- بلورة خطة منهجية لمعالجة القضايا المرتبطة بالذاكرة المشتركة مستلهمة من منهجية العدالة الانتقالية كما بلورتها المجتمعات الأخرى وبحسب خصوصية التجربة العراقية في ضوء الاحتكام للمعايير الدولية لحقوق الإنسان
  9-  مقاربة المصالح المشتركة والقضايا المرتبطة بالذاكرة الاثنية والذاكرة المشتركة بما يساعد على بناء مستقبل لتعايش إنساني جديد يقوم على علاقات الندية والاحترام المتبادل والتعاضد.
10 -   العمل على ترسيخ وتنمية قيم التضامن والتفاهم من أجل صون السلم، وتقوية الصداقة بين الأمم، والشعوب والمجموعات العرقية والقومية والإثنية والدينية واللغوية بعيدا عن كل أشكال الإقصاء وتجلياته.
بعض الوسائل المقترحة
1-   إعداد ونشر البحوث والدراسات حول قضايا الذاكرة المشتركة.
2-   عقد الندوات واللقاءات الفكرية، وتنظيم حلقات التناظر بنزاهة علمية لبناء المواقف وتجسير العلاقات.
3-   إصدار الكتب والنشرات في المجالات المرتبطة بالذاكرة المشتركة.
4-   التعاون والتنسيق مع الهيئات والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وذلك ضمن مقاربة تشاركية كلما أمكن ذلك.
5-   فسح المجال للمنظمات غير الحكومية لتقديم الاستشارات والخبرة و الأخذ بها  في القضايا ذات الصلة .
6-    التركيز على الشباب في الإسهام  بخطط التنمية والتطور الديمقراطي والتآخي بين الشعوب والتضامن ألأممي لاستتباب السلم وتحقيق التعاون وتنمية المشترك  الثقافي
7-   بناء منهجية خاصة تمكننا من القطع مع إرث هذا الماضي من خلال اعتماد مقاربة العدالة الانتقالية وتأصيلها في هذا المجال بين الدول والأمم والشعوب للانطلاق نحو بناء المستقبل دون عوائق أو معوقات تتغذى من الذاكرة.
ولابد أن نتذكر دائما أن المحيط الجيوسياسي للعراق واسع وتوترات الماضي مع هذا المحيط أوسع. كما أن تأثير هذه التوترات على الحاضر مؤكدة وواضحة في أكثر من ملف  لذا ينبغي معالجة أثرها على مستقبل العراق
11- تعبئة الرأي العام والفاعلين حولها.
12- الانفتاح على مختلف الفرقاء والفعاليات وإيجاد طرق لتفعيل ثقافة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية   واعتمادها ومعالجة القضايا التي تشكل دون شك ضمانا للتعايش السلمي والسعي لان يكون قيمة مضافة في المشهد العراقي والدولي.
1.     13- تجاوز مقاربة الظالم والمظلوم من خلال بناء جديد للمسؤولية الاجتماعية المشتركة،  والمصالحة الوطنية الشاملة ،والاحتراز من استعمال مفاهيم غير مشتركة مؤسسة على فكرة "الضحية والجلاد" تعمل على تحميل الآخر المسؤولية بتعميم عنصري أو تعصبي أو تسلطي .
 14- الحذر من الاقتصار على جبر الضرر فقط  والوقوف عنده بل الانتقال نحو أشكال مرنة ومبدعة للتعاون والتضامن من أجل بناء مستقبل يقطع دابر خيبات الماضي ويكفل الحقوق والمصالح المشتركة.   
15- سترجة سياسات التساكن وإعادة الدمج ديمغرافيا لجميع مكونات المجتمع العراقي  
16- قطع الطريق أمام أي انتهاكات لحقوق الإنسان في المستقبل ، وضمان ألا يتكرر ذلك مرة أخرى ،
 17- بناء إستراتيجية لمصالحة وطنية شاملة تمكن  من إجراء مصالحة حقيقية وكاملة ، لا مع القوى السياسية ، وإنما، مع التاريخ الوطني والذاكرة الوطنية!
18- تفعيل آليات المحاسبة ـ والحد من الإفلات من العقاب ـ وإعادة بناء علاقة الدولة بالمواطن  وإنشاء المؤسسات الديمقراطية.
19- تحقيق الإحساس الاجتماعيٍّ بـ (العدالة) بشكل أكثر شمولاً وأبعد أثراً ، مِمَّا يمهِّد لعمليَّة السلام والتحوُّل الديمقراطي والمصالحة الوطنيَّة المرغوب فيها. من قبل جميع مكونات الشعب العراقي

-------------------------------
بحث مقدم في المؤتمر التاسيسي للتقريب الديني -2011 – في نادي الفروسية

ليست هناك تعليقات: