الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

دعوة لـ "دمقرطة المسرح" د. نهى الدرويش

د.نهى الدرويش 
مع عودة العروض المسائية الى المسرح العراقي يعود الامل يتجدد في النفوس ، ويتجسد في سؤال كبير يلقي بالمسؤولية على كاهل كل مثقفينا ،وبخاصة المسرحيين منهم :أهو البدء بعصر مسرح جاد مرة اخرى في العراق ؟ ان هذا السؤال ينبثق من شحنة الالم المتراكم الذي خلفته الاثار الرديئة لمسرح ما كان يسمى "تجاري" وتارة اخرى  "شعبي" وهو لا يمت الى الاثنين بصلة ، فاذا كان هدف المسرح هو المتعة او التوعية فكلا الهدفين تؤطرهما حدود انسانية من الالتزام بقواعد المسرح النبيلة ، اذ ان المتعة والتشويق والانجذاب اذا خرجا عن هذه الحدود سقطا في فخ الرذيلة الفنية وحينذاك من الظلم ان نطلق كلمة "مسرح" على عروض ينبغي ان تجد مثواها في "علب ليلية" وليس خشبة المسرح النظيفة . وما دمنا اليوم نعود لنسير في دروب المسرح الجاد الملتزم لابد ان نحتاط حذراً من السقوط مرة اخرى في فخاخ العهر المسرحي الذي ساد في تسعينيات القرن الماضي الى حد ملحوظ وهذا يتطلب منا الوقوف طويليا امام كل محور من المحاور الاتية :

اولاً: لابد ان يرافق حركة المسرح حركة نقدية جادة وموضوعية ، لذا ارى من الواجب على جميع النقاد المسرحيين ان يتابعوا هذه الحركة ويترصدونها بالنقد الموضوعي المنهجي واقصد بهذا الكف "وبرجاء ساخن" عن التكسب النقدي
] حصول الناقد على هدية او مبلغ مالي او مجاملة صديق او مسؤول لقاء مديحه لعمل مسرحي [ اذ ان العرق الذي يسكبه الفنان المسرحي على خشبة المسرح ،والانفعال التصاعدي الذي ينهك المخرج والمؤلف كل هذا جدير بأن يبعث العار على مثل هذه الممارسات الانتهازية التي شوهت واقعنا المسرحي لسنوات طويلة، ان الفنان العراقي الذي تجاوز شباك التذاكر يستحق منا نقداً نبيلاً وموضوعياً ،وارى ان الفرصة سانحة لمن جرفهم تيار النقد التكسبي ان يعودوا ليشكلوا حركة نقدية علمية جديدة تعلن ولادتها النظيفة مع انبعاث مسرحنا الاصيل ، لذا ارى ان مسؤولية النقد البناء هي اهم المسؤوليات ، واقترح ان تشارك منظمات المجتمع المدني التي تعنى بالثقافة والفنون وجميع المنتديات الثقافية الى عقد جلسات نقدية لكل عمل مسرحي يقدم، وان يتم استضافة شخصية فنية او اكثر من فريق العمل المسرحي (الكاتب ،المخرج،الممثل...) وفتح حوارات مع عموم الجمهور، ويا حبذا لو رافقت الجلسة النقدية او النقاشية عرض مقاطع من المسرحية على جهاز العرض الجداري (داتا شو) لسحب اهتمام الجمهور الى المسرح ونشر الوعي النقدي لدى الجمهور ،كما اشدد على دور وسائل الاعلام في اسناد المسرح العراقي سواء في مرحلة الاعلان عن الحدث المسرحي (بتجاوز وسائل الاعلام لرأسمالية الاعلان)، او في مرحلة المتابعة والتغطيات الاعلامية للحدث المسرحي، او في مرحلة التقويم ونشر المقالات النقدية عنها ، فالوسيلة الاعلامية التي لا تستكمل عناصرها في الاعلان والمتابعة والتقويم النقدي للمسرح العراقي ينبغي لها ان لا تتبجح الا بمقدار ما تنشره من مواضيع مستوردة عبر الانتر نت ، وان تسكت خطابها الزائف حول اهدافها الثقافية وعليها ان لا تنسى ان المسرح يعد اهم وسائل التوعية والتثقيف ونحن احوج ما نكون اليه في هذه المرحلة التي تتطلب تكاتفاً حميمياً لاعادة الحياة لثقافتنا الاصلية .كما ارجو ان تتنبه وسائل الاعلام وبخاصة المقروءة منها الى الحذر من نشر المقالات التي تدعي النقد ، اذ ان الاخيرة لابد ان تعتمد منهجاً تحليلياً تقويمياً وليس انتقاداً او وجهات نظر.

ثانياً: لابد ان يرافق حركة تطور المسرح اهتماماً جاداً من قبل الحكومة وعموم السياسين فحضور هكذا شخصيات لعروض مسرحية يؤشر بوضوح متابعتهم للحركة الثقافية في المجتمع واتصالهم المباشر مع الجمهور بدل الانزواء خلف الجدران الكونكريتية واسوار الحمايات الخاصة ، لقد آن الاوان لكسر هذه الحواجز وعودة روح التفاعل والمشاركة من جديد ، وقد يكون ارسال باقة ورد هو "اضعف الايمان" لكنه حتماً سيؤشر حضوراً رمزياً له اثر كبير في نفوس المثقفين عموماً والفنانين على وجه الخصوص كونهم اكثر الشرائح رقة في المشاعر والوجدان ، ناهيك عن اهمية دور الحكومة في اعادة اعمار وبناء المسارح وتخصيص الموارد المالية الجيدة للمهرجانات والمواسم المسرحية والعودة الى تقليد غاب عن المشهد الثقافي العراقي الا وهو جائزة الابداع الثقافي ، ورفع المستوى المعاشي للفنان العراقي ودعوة الفنانين المهاجرين والمهجرين للعودة الى خشبة المسرح العراقي وتوفير الامن والكرامة لهم بما يليق بكل عراقي . وعلى الحكومة ان لا تنسى ان للمثقف العراقي (سواء كان اديباً ام فناناً )حقان اولهما: حقه كأنسان بما يكفله الدستور والاعلان العالمي لحقوق الانسان ، وثانيهما : حقه بوصفه مبدعاً فهو بهذا المعنى يعد من الكفاءات الفنية والادبية ، وهذا يعني تصنيفه ضمن
" النخب" وضمن "التكنوقراط" اذا ما دققنا في المعنى العميق لهذه المصطلحات وليس كونها مسميات تطلق بحسب التوجهات السايسية .

ثالثاً : على الفنانين والادباء ان يتداولوا ويلتزموا بحقهم في التعبير الحر وان يتحالفوا لتثبيت هذا الحق الدستوري في كل القوانين التي تتعلق بهم ، ذلك ان المسرح هو صوت الانسان والمجتمع المدني وليس صوت السياسي والحكومة وفي هذا لا اقصد المسرح المشاكس او المسرح المحرض او مسرح الفضائح وانما مسرح الوعي الحقيقي بهموم الانسان الفرد والانسان ضمن كل انساقه الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها ، نحن نطمح الى مسرح يؤشر الخلل ويحلله ويطرح بدائل التصحيح، مثلما نطمح الى حكومة وسياسين يتقبلون النقد ويتنبهون الى مؤشرات التصحيح بوعي ورحابة صدر ، وباختصار انها دعوة لـ
"دمقرطة المسرح " ترافق حركة دمقرطة السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية ) .



رابعاً: تحفيز وتشجيع حركة التأليف المسرحي في العراق وهذا لن يتم دون تضافر جهود الفنانين فيما بينهم ووعيهم باهمية انبثاق فكر مسرحي عراقي جديد له مقوماته واسلوبه ونكهته في التناول والمعالجة والطرح لاي مشكلة او ظاهرة او موضوع واقعي معاش ، وعلى الرغم من الابداع الواضح في تكييف الاعمال المسرحية الانسانية العالمية في المسرح العراقي ولكن يبقى الابداع الاصيل في الخلق اكثر مما هو في التجديد والتكييف. اننا بحاجة ماسة الى تشجيع حركة التأليف المسرحي واعادة الروح اليها والحد من ظاهرة التناصات المسرحية واستعارة النصوص العالمية وتكييفها ومعالجتها بما يتلائم والواقع العراقي وذلك من خلال تشجيع المسرحيات المنشورة " المطبوعة" واعمال تخرج الطلبة من معهد وكلية الفنون الجميلة . ويا حبذا لو اجريت مسابقات لنصوص مسرحية عراقية واتاحة الفرصة لابداعات الشباب في هذا المجال واجراء حلقات نقاشية لدراسة ومناقشة واقع التأليف المسرحي في العراق والتحديات الراهنة التي تواجهه . ولابد هنا من الاشارة الى اهمية تخفيف غلواء بعض المسرحيين الاكاديمين على الابداعات الشابة اذ عليهم ان يدركوا ان تهميش والغاء الاخر او تسفيه التجارب الوليدة ليس من المروءة ولا من اخلاقيات الديمقراطية ، فليس اروع من المربي الذي يحتضن تلاميذه ويصحح منجزاتهم ويقوم ابداعاتهم ويساعدهم في النمو والتطور ، وتلك هي الرسالة الانسانية للمربي وهي تختلف جذرياً عن مهمة "الديناصور" الذي يعتقد ان عملقته بامكانها ان تسد الطرق بوجه الانسان الصغير حجماً ، اذ لابد للديناصور ان يدرك ان هذا الانسان كبير في نفسه وهو قد يتعملق ذات يوم ويضطره سلوك الديناصور ان يدير ظهره اليه ساخراً ، ان العملاق الحقيقي هو الذي يلد اجيالاً من العمالقة يدينون له بالريادة والرعاية والتعلم .

خامساً: ان المسرح العراقي اليوم يمتلك فرصة ذهبية في اجتذاب الجمهور والاسهام في توعيته ونشر ثقافة المسرح الجاد بعد غياب سنوات طويلة بسبب ما مر بالمجتمع العراقي من احداث مهمة سحبت جمهور المسرح الى معاناة كارثية وسحبت المسرح الى محاولات مضنية للملمة شتاته ، وبغياب دور العرض السينمائي وضعف وندرة المحافل الفنية والادبية ،صار للمسرح اليوم دور الريادة والاولوية في سحب الجمهور من قوقعة مكاتب الانترنت والاتصال والتواصل الالكتروني الجامد الى فضاء المعايشة الحية والتواصل المباشر مع وبين الجمهور والعمل الفني المسرحي ، لذا فأن استقطاب الجمهور الى المسرح الجاد ونشر ثقافة ارتياد المسرح هي من اهم الاهداف التي لابد ان يخطط لها المسرحيون المسؤولون اخلاقيا عن حركة المسرح وتاريخه في العراق، وذلك قبل ان تظهر وتستفحل حركات شبه فنية تشوه ذائقة الجمهور وتستثمر تعطشهم للانغماس  بالنشاطات العامة في محاولات قوية لاقتناص الجيوب وتشويه العقول والنفوس . كما ان على الجمهور المثقف ايضاً يقع واجباً مقابل هذا فالمثقف العراقي مطالب اليوم باشراك افراد اسرته في عملية النهوض الثقافي وريادة المسرح واحدة منها وبخاصة ان مسرحنا اليوم يتسم بالنظافة القيمية والاخلاقية بشكل واضح ، كما ان على الجامعات والمدارس ان تنفتح على المسرح ويعود تقليد "السفرة المدرسية" او الجامعية للطلبة مع عوائلهم لحضور عروض مسرحية ، وفي ذات الوقت فأن تكوين المسرح التعليمي الجوال يعد ضرورة ثقافية وحضارية لابد للمسرحيين من وقفة طويلة عندها ، فرسالة المسرحي في هذه الفترة هي اصعب بكثير مما يعتقدها البعض اذ عليه يقع عاتق التوعية والتعليم والبناء الفكري والاخلاقي للانسان العراقي الجديد .
اخيراً الفنان المبدع هو رائد التغيير ، وهو الانموذج الراقي لفكرة الانسان الذي سيكون ، وهو الارادة المستمرة لما لابد ان يكون عليه الانسان . انه القائد الحقيقي للمجتمع ما دام منقحاً للثقافة .

ليست هناك تعليقات: