الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الميتا مسرح : تحدي الابداع بين مرادانية المسرحي وابداع الفنان وذائقة الناس

د. نهى الدرويش
      يقال ان حكيما صينيا مشهورا وقف في طابور طويل ليقتطع بطاقة دخول عرض مسرحي ، فزاحمه صبي صغير لم يبلغ الخامسة عشر من عمره ، فاراد الحكيم مشاكسة الصبي فقال له : لم تريد مشاهدة العرض المسرحي ؟ اجابه الصبي فورا : اريد ان اعرف ، فعاد يساله : وماذا تريد ان تعرف ؟ فاجابه الصبي : ما تريد انت ان تعرفه ، فقال له الحكيم : لم لا تاتي وتتتلمذ عندي واعطيك المعرفة ، فضحك الصبي قائلا : هنا ساعرف ما لا تعرفه والا لما كنت انت هنا . وهرع الصبي لدخول المسرح ، وبعد انتهاء العرض المسرحي صادف الحكيم الصبي عند الباب فساله مازحا : ماذا عرفت ؟ فاجاب الصبي : عرفت كيف اعرف وعرفت انك لا تعرف ماذا اريد ان اعرف .

        هذه الحكاية الطريفة تكشف لنا بوضوح اهمية ودور المسرح في البناء المعرفي المجتمعي الانساني سواء لشريحة النخبة الواعية ام لشريحة النخبة الشبابية المتطلعة الى مزيد من الاستنارة في الوعي ، ذلك ان المعرفة التي يقدمها المسرح بكل مؤثراته الحسية والادراكية لابد ان تخلق مسارا معرفيا وفوق معرفيا في وعي المتلقي وتفكيره حتى وان كان هذا لا يبدو هدفا صريحا ومباشرا ، فالمسرح بكل اتجاهاته ومدارسه الفنية والفكرية يقدم اهم معرفة للمتلقي وهي " ان يعرف كيف يعرف " .

        ومن هنا بدات الرؤية النقدية للمسرح الحديث ودوره واهدافه الانسانية تنضج ، ومع تطور الدراسات والبحوث النقدية الحديثة ظهر ما يعرف بفلسفة الميتا مسرح التي كسرت الحواجز التقليدية في تصنيف المكونات الاجرائية للمسرح لتعتمد التذويت لهذه المكونات الاجرائية في وعي وما فوق وعي المتلقي الذي اصبح مدمجا وشريكا في مهمة "كيف يمكن ان يعرف " ، وبمعنى اخر صار الهدف الفلسفي الضمني للميتا مسرح "ان لا يمنح سمكة لجائع وانما ان يعلم الجياع كيف ان يصطادون السمك" ، فالتاثير على ادراك المتلقي مهمة عسيرة وذلك لتنوع واختلاف الادراك للمثيرات الحسية والمعرفية بين المتلقين ولكن حين يعمل المسرح على اشراك هذا الادراك ودمجه في بوتقة العمل المسرحي فذلك مهمة اكثر صعوبة ، لذا سعى مصممو المسارح الى اعتماد التقنيات الحديثة وتجاوز تقنية المسرح الثابت والمتحرك نسبيا وتقنية العتبة بين المسرح والجمهور نحو اعتماد المسرح الدائري الواقع في قلب صالة العرض  حرف(  O ) والمسرح العمودي الدائري (φ ) والمسرح الاهليجي المتحرك الدوار والمسرح المصمم على شكل حرف (T ) المستعار من خشبة عروض الازياء والمسرح المتداخل على شكل حرف (W ) ومسرح النواة الشبيه بنواة الذرة ومسرح المدارات الشبيه بمدارات الالكترون والمسرح المتشضي (اكثر من 3 خشبات مسرح في الصالة للعرض الواحد) فضلا عن التمازج بين هذه التصميمات وغيرها . كما ابدع الفنيون في ادخال التقنيات الحسية الجديدة مثل اطلاق روائح معينة على الجمهور ضمن سياق العرض او نزول رذاذ مطر (كاذب) على الجمهور او حدوث برق ورعد صوتي وضوئي في سقف صالة العرض فوق الجمهور فضلا عن توظيف فتح سقف الصالة على مصراعيه في اثناء او نهاية العرض المسرحي . وما كل تلك الاستخدامات التقنية الا لخدمة زيادة وتوسعة وتحسين ادراك المتلقي وليس لاجل المتعة والاثارة واجتذاب الجمهور ، وقد وصل الامر الى استبدال مفردات مثل "الجمهور" ،" المتلقين" ، "الحضور" الى مفردات "المشاركين" ،" المدمجين "،" فئة العرض" . ولم يتوقف الامر عند هذا بل صار العرض الميتا مسرحي يستعيض عن الكلمة بالحركة والايماءة والمؤثرات الضوئية والصوتية والشمية واللمسية فضلا عن الارتقاء بالنص المسرحي لمستوى ما بعد الرمزية . فالفعل يبقى كامنا في المعنى يستدل عليه من مختلف المؤثرات الحسية فيما يظهر رد الفعل في شكل الصراع الذي يجسد ثيمة العمل المسرحي ويكون مفعما بالدلالات والرموز التي تسحب الوعي الى النتيجة او الحل او النهاية التي يحجم العمل عن قولها او تجسيدها بل يمهد لها ادراكيا بحيث لا يختلف عليها اثنان ولا يشك في تحقيقها احد كونها تصب في الوعي الفرداني ،انها بلورة الوعي حد القناعة بمنطقية النهاية او الحل او النتيجة وحتميتها على وفق منطق الادراك ، وبهذا خرج النص المسرحي من مرحلة بث الشك والتناقض في التاويل الى مرحلة الايمان بحتمية النتيجة من منطلق الواقع المسقرأ منطقيا  ، ذلك ان المتلقي نفسه خرج من دور المتفرج الى دور المشارك وهذا يعني ان مراقبته للعمل المسرحي كانت ممتزجة ومتسقة مع مراقبته لوعيه ، فشخوص العمل المسرحي هي انساق من مكوناته الشخصية في احداثياتها الانسانية والكونية الشاملة ، انه يرى فيها ظله ويستكشف فيها اسقاطاته ويرقب فيها ذاته مرتين في آن واحد ، مرة في الشخوص ومرة داخل وعيه، انه يبني المقدمات بفعل التاثير الدرامي ويستنتج النتائج باثر ما بعد التاثير الدرامي . وعلى هذا فان الميتا مسرح يعنى بقضية المتلقي – الانسان – الفرد في كينونته بانساقها الجمعية الانسانية وليس جمهور المتلقين زمكانيا في وجودهم الاني امام العرض المسرحي . ولكي يتحقق هذا فلابد ان يخرج النص المسرحي من اسر الاطر الذاتية والمحلية الى شخصنة النموذج الانساني في محدداته الحالية وملامحه المرتقبة ، وهنا مازال الصراع الفلسفي قائما بين ماهو كائن وما يجب ان يكون في الشخصنة على الميتا مسرح .

        فالنموذج  الانساني الحالي مفعم بالالم والاسى والدم والحرمان والبؤس ، والنموذج المرتقب مفعم بالفرح والسعي والتنمية المستدامة ، والسؤال الذي يطرحه منظروا وفلاسفة الميتا مسرح : كيف يمكن ولادة النموذج المرتقب من النموذج الحالي بشكل تمهيدي استقرائيا او استنباطيا على وفق المنطق الذي هو الاكثر التصاقا بالذاكرة والاكثر اقناعا للوعي ودون حشر او اقحام الفعل المفترض الذي يتميع حتى قبل ان يصل الى وعي الذاكرة ، ثم يعود هؤلاء ليتساءلوا عن نتائج تجسيد جدلية التناقض بين النموذجين ليكون السؤال : هل سيبقى المسرح كما هو رمزه الان ؟ :القناع الضاحك ، القناع الباكي . وهل تبقى هذه الفلسفة الثنائية ملصقة بالمسرح كاحدى التهم البدائية ؟.

        يبدو ان دمج هذين النموذجين بشخصنة مسرحية واحدة ستكون هي مهمة الميتا مسرح وهي المساحة اللا متناهية لاطلاق الابداع المسرحي الجديد في العرض والتناول والمعالجة والتفاعل مع جمهور المتلقين بوصفهم مدمجين فردانيا وعلى نحوتكاملي .

انموذج تطبيقي :في اطار الفحص الدقيق وضمان الجودة

      حلم في بغداد :كان عرضا ميتامسرحيا رائدا اختبر فيه الجمهور المتلقي ذائقته ووعيه الادراكي ، وبين دهشته امام هذا الاختبار وفرحته بهذه التجربة ،صفق طويلا حتى وهم يعتلون خشبة المسرح بعد انتهاء العرض {الذي لم ينته} ليبرهنوا دون دون دراية او اتفاق مسبق النتيجة التي يريد الميتامسرح تحقيقها ، الا وهي :دمج الجمهور مع العرض المسرحي بوصفه نتاجا ما وراء معرفيا لوعيهم المستمر .

     لقد حقق الجمهور في بغداد انتصاره بانتصار عرض حلمه ، رغم ان الضحية ظلت ملقاة على الارض شاهدة على بطولة ثورية لانتصار الفكرة القادمة من جوف الجمهور المدمج ،مثلما كانت البداية نتاج ارادتهم الواعية ،اذ لم يكن تسليط الجمهور باضوائهم الفردية يدويا على المسرح الا خطوة مهمة لهذه البداية ، انها الوعي الفردي الارادي الموجه الذي يكشف مدى الفروق الفردية في تناول الموضوع كل من زاويته الخاصة ، وتلك هي المهمة الاساسية للميتامسرح التي خرقت قاعدة الوعي الجماعي {وليس الجمعي } التي تؤشر الفرد المتلقي في اطر الاسقاط اللاواعي ، تلك القاعدة التي كرستها الاتجاهات الفلسفية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مستثمرة طوبولوجية مدرسة التحليل النفسي الكلاسيكية ومتجاهلة كل التطورات التي قدمتها المدارس النفسية التي تلتها ، انها بعنى اخر فلسفة مسرح الفرد كما تقترحه الفلسفة الديمقراطية ، بوصف الفرد هو الاس
{ القوة } الكامنة في الجذر العددي للمنجز المجتمعي .

    ان تجربة حلم في بغداد كشفت واقعا مؤكدا هو امكانية الوثوق بالعقل العراقي المبدع في استبطان تجربته الحقيقية باعلى مستويات التعبير التجريدي في مجتمع يفتقر في عمومه الى مهارات اساسية في التفكير العلمي والناقد ،فكأن هذا الابداع العراقي اخترق قاعدة التسامي نحو التماهي الابداعي وانتاج النتاج الفكري المتطور انسانيا بمراحل عديدة ربما لم يصلها الانسان في عموم مجتمعات الارض بعد ،  اذ ان اعتماد لغة الجسد تحقق هدفا انسانيا عاما يتجاوز الفروق الفردية والمجتمعية في اللغة المنطوقة والمدركة { بفتح الراء} انه مثلما هي الموسيقى واللوحة التشكيلية ، اداة  تعبيرية عبر حضارية، ويكمن ابداع لغة الجسد في {حلم في بغداد} في تجاوزه الاطر التقليدية لاعتماد هذه اللغة في الاداء ، لقد حولها مبدعو هذا العمل الى لغة تجسيد ميتافنية ، فلم يعد المراقب الناقد للعمل يستذكر هذه الاطر ، لقد تداخل فن الباليه الحلمي مع الرقص الافريقي الحاد مع الايقاع الجسدي المهني للبحارة مع التصعيد الصوفي للزن ، لذا جاءت جلسة اللوتس للمرأة الحمراء ، والوقفة المتجاهلة لظهر الرجل الازرق ، والانتظار الاسود الشاخص هناك ، ان هذا التنوع اللوني الرمزي مع حضور كل مفردات الحدث – الموضوع على خشبة المسرح مضافا اليه ايقاع الموسيقى المطري  من السقف المنخور ، كل هذا رسم ابتداءا صورة الحدث – الموضوع بتمازج متماسك ليتداخل المسرح في المسرح ، وهكذا تم توظيف المعاطف الشفافة بذكاء وظيفي فهي تارة معاطف واقية ،وتارة رداء مائي ، وتارة اخرى رداء جليدي ، ليقدم كل هذا دلالات تعصف بالذهن لتنقله الى افاق المتعة المعرفية التي يفتقر لها الانسان في مفردات حياته اليومية بواقعيتها المباشرة .

    لقد عبر الجسد عن خصائص شخصية يصعب جدا التعبير عنها باللغة المنطوقة دون الوقوع في فخ المحدودية ، لقد كان التمركز حول الذات واضحا في دوران الجسد حول محوره {الذراع}اذ ظل هذا المحور يشير الى الاعلى ليكمل رمزية الاحمر الذي يلف المنتصف السفلي للجسد العاري من اعلاه الا بغشاء شفاف شرنقي مموه حتى استحال هذا الجسد الى واقع يباشر بالاستلاب والاغتصاب ، لقد نطق الجسد بقصة الحلم : رداء جلدي اسود{ جلاد} عمامة بيضاء { السلطة } حزام يعقد في الظهر { ارادة} وسيف يفعل فعله امام التراتيل الطقوسية اللامبالية باسباب القتل ، وصدمة الانسان بالموت قسرا،صراع بين الخرطوم- المهبل – النازل من السماء بانتظار القادم الذي لم يأتي ،وصراع الانسان عليه ومعه اذ استحال من امل الى قيد ، ونهم حشوي يترجم المشاعر الصامتة بالرغبة في قضم الاخر وسحقه واثارة ضوضاء الوجود المكاني اللارقعوي ، ثقافة مسموعة ومرئية ومقروءة تنتحر باستلامها لاقدام الغزاة على صدر جثتها التي كانت انسان ، اجيال تٌقتل واجيال تلد اجيال ، وصرخة استنجاد الانسان بعنصر الاستقواء الغيبي مفعمة باللوم والتساؤل المرير. كثيرة هي الدلالات للوصول الى وعي الوعي بالحكمة من الحدث – الموضوع التي تؤشرها ذاتية الفنان المبدع مضافا اليها ذاتية المتلقي المستحث{بفتح الحاء} .


   
     لقد كان حلم في بغداد قصيدة ملحمية لم تقل بعد ، حلما لوعي فصيلة سرية من فصائل الانسان القادم ، ولايسعنا في هذا الزمان الا ان نقدم الدهشة امام الافصاح عن المعنى الكامن في لغة الجسد ،والدهشة في استكشاف امكانية المتلقي بقدرته على الفهم والاستيعاب والتفسيرلهذا التداخل المعرفي المنتج ، وبخاصة ان معظم الجمهور كان من شريحة الشباب مما يتطلب مراجعة لواقع المسرح العراقي على وفق المنظور الحديث لمرادانية الجمهور وشريحة الشباب على وجه الخصوص بوصفهم الانسان المستمر نحو المستقبل .

       حلم في بغداد : حلم تجربة مسرحية انطلق ليبشر بوعي مسرحي قادم ، والسيف الذي اخترق الجسد وظاهره، ودق خشبة المسرح سيكون اثره على هذه الخشبة شاهدا وبصمة لانطلاق مسرح عالمي تشاركي يحيل العالم الى قرية صغيرة اداتها التعبيرية لغة الجسد ، ودمغة للاصوات الدوغماتية التي ترفض التجديد المبدع . لقد تجاوزت هذه الميتامسرحية القناع الانفعالي الضحك – الباكي الى قناع المفكر- المتفكر اذ ان الميتا مسرح ليس هو مسرح المتعة والفرح الخالص وانما هو مسرح المعرفة المنتجة للمتعة والفرح ، مسرح استثارة المتعة المعرفية وليس المتعة الانفعالية .

      حلم في بغداد : هو نتاج مختبر المستحيل ليس بمعناه العدمي بل بمعناه الحلمي : ان تحيل واقعا الى واقع اخر يدركه الوعي كما لم يدركه قبلا ، ويعبر عنه مثلما لم يعبر عنه مسبقا ، انها ليست فكرةاستحالة التحويل –وهي الممكنة في مختبر المستحيل – بل امكانية التحويل باداة المبدع ، ذلك ان الابداع ارقى من المألوف السائد ومن يتمكن من الابداع بالتأكيد متمكن من المألوف السائد .

     ولكي لا يغبن حقنا التاريخي في الريادة مثلما حدث في كثير من حقول المعرفة والفن والادب ، فلابد لنا ان نؤشر : ان حلم في بغداد عمل ابداعي متفرد، فتح خصوصية الذات العراقية المتألمة – المتطلعة بوعي ادراكي ناقد ،الى خصوصية الذات العالمية للانسان في قواسمها المشتركة .


     ولكي لا نئد مبدعينا مثلما حدث في المراحل الراحلة ، علينا ان نقف طويلا وبموضوعية انسانية امام فرقة المستحيل باهدافها ورؤياها وتطلعاتها ومنجزاتها ،لانها مسرح الشباب الذي سيرسم خارطة الوعي لدمقرطة المسرح في العراق مستقبلا .

    حلم في بغداد : ميتامسرح عراقي يستحق النقد الموضوعي البناء ، وتجربة رائدة تستحق الاعتزاز . انها قصيدة ممسرحة للغة الجسد تستحق ان تكون " معلقة " على جدران صرحنا المسرحي في العراق . فلنفعل ما سيفعله نقادنا مستقبلا ونختصر حقب الصراعات النقدية المتعصبة ونؤسس لبناء تاريخ فني موجه بدل التاريخ العشوائي الذي نقبع فيه ، علينا ان نتعلم فن صناعة التاريخ وفن الحفاظ على استمراريته قبل ان يصبح مصير فرقة المستحيل مثل مصير امرؤالقيس . مجرد تاريخ نتغنى بريادته بعد ان عاش رائده مهمش .

ليست هناك تعليقات: