الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

دور المجتمع المدني في تفعيل اليات العدالة الاجتماعية

د. نهى الدرويش

      ان دور المجتمع المدني في تفعيل اليات العدالة الاجتماعية له جذوره التاريخية ومواصفاته وملامحه الاساسية في العصر الراهن ، وعلى الرغم من تعدد انماط هذا الدور بحسب المرحلة التاريخية وخصوصية كل مجتمع في انتقاء او تكييف اواستحداث اليات مناسبة له ، الا ان عملية اعادة التنظيم المجتمعي تبقى القاسم المشترك بين كل المجتمعات التي خرجت من مراحل صراع او عنف او تحول سياسي في نظام الحكم
( من النظام الدكتاتوري الى النظام الديمقراطي ) ذلك ان الفوضى الناتجة عن عملية الانتقال السياسي والتي غالبا ما تكون سريعة ومفاجئة وتشوبها الكثير من الصراعات العنيفة نتيجة التضارب القيمي الراشح من التعددية الثقافية او من التباين في الفلسفات السياسية السابقة والمستحدثة – يستثنى من ذلك بعض المجتمعات التي مرت بمرحلة الانتقال نحو الديمقراطية بشكل سلمي مثل جمهورية التشيك – لذا فان عملية الانتقال نحو الديمقراطية تتطلب تخطيطا لاعادة التنظيم المجتمعي لتلافي او معالجة اومنع حدوث انتهاكات لحقوق افراد ذلك المجتمع ، وياتي ذلك من خلال تضمين اعادة التنظيم المجتمعي في اليات العدالة الاجتماعية ضمن ستراتيجيات شاملة لعدالة انتقالية يتقاسم فيها الادوار والمهام والمسؤوليات النظام السياسي متمثلا بالجهازين التشريعي التنفيذي والمجتمع المدني المتمثل بالمؤسسات غير الربحية وغير السياسية .
اولا : الجذر التاريخي لاعادة التنظيم المجتمعي
        يعود الجذر التاريخي لتنظيم المجتمع الحديث  الى انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال  حركة جمعيات تنظيم الإحسان وحركة المحلات الاجتماعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اذ كانت تلك الحركات تمثل رد الفعل المجتمعي لمواجهة المشكلات الاجتماعية العنيفة التي نتجت عن الثورة الصناعية في تلك المجتمعات، على الرغم من اختلاف كل منهما في النظرة إلى تلك المشكلات وفي تصورها لأسلوب حلها.


فقد حاولت جمعيات تنظيم الإحسان زيادة كفاءة الهيئات التطوعية العاملة في مجال الإحسان (والتي كانت وسيلة الأغنياء لمواجهة مشكلة الفقر عن بعد) وهي تستند على اطار نظري مفاده  التسليم ضمنا بسلامة النظام الاجتماعي وبأن الفقر مشكلة فردية وإن الفقراء مسؤولين عن فقرهم .

اما المؤسسات الاجتماعية  فقد حاولت التأثير في سلوك جماعات المهاجرين إلى المدن عن طريق الاحتكاك المباشر بين المثقفين وبينهم من خلال مجموعة من الأنشطة المصممة لمواجهة حاجات المجتمع المحلي والتي تضمنت القيام بجهود للعمل المدني  لتغيير السياسات والممارسات والقوانين والتشريعات.

كما ادت حركة تنظيم الإحسان في أوائل القرن العشرين إلى ظهور مجالس الهيئات الاجتماعية التي تولت مسؤوليات التخطيط والتنسيق بين الهيئات الاجتماعية العاملة في مختلف ميادين الرعاية الاجتماعية (وليس فقط في مجال الإحسان)، و شاركها في هذه المهمة (خصوصا أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى) صناديق التمويل المشترك التي كانت تقوم بتنظيم حملة سنوية مشتركة لجمع المال اللازم لتمويل خدمات الرعاية الاجتماعية في المجتمع المحلي وتوزيع حصيلة الحملة على الجمعيات الأعضاء، وغالبا ما كان ذلك يتم بالتعاون مع مجالس الهيئات الاجتماعية
.

وقد أدى ظهور تلك الأجهزة والمؤسسات وممارسة الأخصائيين الاجتماعيين من خلالها إلى النظر إلى تنظيم المجتمع المدني المحلي على أنه تنسيق  للخدمات الاجتماعية أو على أنه عملية "تخطيط" لمواجهة المشكلات الاجتماعية في المجتمع المحلي، وقد اكتسبت تلك الوظائف في تنظيم المجتمع احتراما كبيرا وتميزا داخل مهنة الخدمة الاجتماعية  والعمل المدني ما أدى إلى الاعتراف بتنظيم المجتمع مدنيا كطريقة مهنية ثالثة في عام (1974)

وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت العديد من الدول التي كانت خاضعة للاستعمار في الحصول على الاستقلال، وظهر مفهوم تنمية المجتمع المدني  بوصفه بديلا ديمقراطيا للوصول إلى التقدم دون ثورة اشتراكية في تلك الدول،اذ تتم التنمية من خلال الجهود الذاتية ومشاركة المواطنين في دراسة وحل مشكلاتهم بأنفسهم (مع توفير قدر محدود من المساعدة الخارجية) وقد وجد المختصين بتنظيم المجتمع أنهم أولى من غيرهم لتولى مسؤوليات العمل المهني المدني "لتنمية المجتمع" وأدركوا أن مشاركتهم في تلك الجهود التطوعية  (التي تتفق مع تراث حركة المحلات الاجتماعية) تؤدى إلى رفع قيمة ممارستهم المهنية بوصفها  مساهمة في تحقيق أهداف التنمية على المستوى القومي من خلال العمل على المستويات المحلية .

لقد أظهرت فترة الستينات من القرن العشرين أن هناك ظروفا تمر على المجتمعات يتحجر فيها النظام الاجتماعي ويفقد فيها قدرته على الاستجابة المرنة لحاجات قطاعات عريضة من السكان ويغطى مساوئه بالتخفي وراء شعارات جوفاء تؤدى إلى فقدان الاتصال بين من يملكون القوة ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها ) وبين من لا يملكونها مما يؤدي الى جملة انتهاكات لحقوق هذه الشرائح التي اعتبرت مستضعفة او مهمشة او مقيدة في الحصول على حقوقها ، ومن هنا ظهرت في الولايات المتحدة منظمات للعمل المدني حاول من خلالها الزنوج والفقراء الضغط على متخذي القرارات للمطالبة بحقوقهم بما يؤدى إلى تغيير التشريعات والقوانين  والسياسات والممارسات المؤسسية التي أدركوا أنها مضادة لمصالحهم، ولم يجد المختصين بتنظيم المجتمع مناصا عن الاشتراك في جهود العمل المدني وذلك من خلال تنظيم صفوف هذه الفئات المحرومة للدفاع عن حقوقها حتى لو أدى ذلك إلى استعمال الصراع والضغط وليس مجرد الإقناع فقط .

وقد ساهم كل تطور من هذه التطورات في صياغة وتشكيل ممارسة تنظيم المجتمع على المستوى الدولي وأدى هذا إلى إثراء نظرية تنظيم المجتمع بشكل كبير ما مهد لظهور ثلاث نماذج لتنظيم المجتمع: نموذج التخطيط الاجتماعي – نموذج تنمية المجتمع المحلي الصغير – نموذج العمل المجتمعي والتي يمكن ادماج ايا منها في اليات لعدالة اجتماعية منصفة وشاملة لكل شرائح المجتمع وذلك بهدف تحقيق  المساواة والحرية في المجتمعات السائرة نحو الديمقراطية  ولتجنب الصراعات والحروب الداخلية في تلك المجتمعات الناتجة عن الصراع الفئوي لاحراز اكبر عدد ممكن من نقاط القوة لكل فئة مما يترك اثارا سيئة وجسيمة من الانتهاكات على فئات اخرى من المجتمع ويساعد على تكريس الفقر والتخلف والمرض عند تلك الفئات التي تعاني التهميش ووطأة الشعور بعدم اشباع الحاجات الاجتماعية بل وفي احيان كثيرة الى نقص حاد في اشباع حتى  الحاجات الاساسية .

ويمكن القول ان سرعة التغير الاجتماعي في المجتمعات التقليدية  قبل الثورة الصناعية كانت أبطأ نسبيا مما يحدث الان في المجتمعات الحديثة، وبالتالي فإن عملية إعادة التنظيم الاجتماعي و عملية تنظيم المجتمع المحلي كانت  تمتلك فرصا أكبر لمواجهة المشكلات قبل أن تتراكم وتتفاقم آثارها الا ان هذا لايعني خلو هذه المجتمعات في تلك الفترة من المشكلات بل سمح هذا الاستقرار النسبي  بتكريس الفوارق الناجمة عن اختلاف القوة الاجتماعية المتاحة لبعض شرائح المجتمع .

أما بعد الثورة الصناعية وبسبب سرعة التغيرات الهائلة و تعقد المجتمعات وازدياد درجة التخصص وتقسيم العمل والاعتماد المتبادل لكل الأنساق الفرعية في المجتمع على بعضها البعض ، فإن الجهود التلقائية التي تبذل لمواجهة المشكلات المتزايدة لم تعد كافية وحدها للقيام بهذه المهمة فقد صار للتغير الاجتماعي من السرعة ما أصبح معه من الصعب على النظم الاجتماعية أن توائم نفسها بكفاءة مع متطلبات التغير، كما أن التخصص وتقسيم العمل المتزايدين قد كرسا الاعتماد المتبادل للنظم الاجتماعية على بعضها البعض، وإلى زيادة تعقيدها بحيث أصبح من الصعب تتبع أسباب المشكلات وردها إلى أصولها، كما أصبح من الصعب وصف الحلول المناسبة لمواجهتها .

وهذا يفسراسباب ظهور مشكلات عديدة مرتبطة بالتحضر السريع  مثل انتشار الأحياء المتخلفة التي تجتاحها الأمراض والأوبئة وألوان الانحراف الاجتماعي بصورها المختلفة والتي عجزت الحكومات عن إصلاح الأحوال فيها ، لذا ظهرت اليات العدالة الاجتماعية بشكلها الحديث لمساعدة النظم الاجتماعية التقليدية والحديثة على إشباع الحاجات الاجتماعية بشكل أكثر كفاءة وفاعلية.

ثانيا : الاطار السايكوسوسيولوجي للعدالة الاجتماعية
 
عندما يشعر افراد المجتمع  بوطأة المشكلات الاجتماعية - بحسب تقييمهم للمواقف -  ينشأ لديهم شعور بالضيق والظلم الواقع عليهم  والرغبة في عمل شيء ما لمواجهة هذه المشكلات، فيعمد بعضهم الى التنفيس عن هذا الضيق بسلوكات مضادة للمجتمع فيما يلجأ اخرون الى الإصلاح الاجتماعي Social Reform بالمعنى الواسع ، ويسعون بدرجات متفاوتة من القوة – تتباين كما ونوعا - لإعادة الأمور إلى نصابها ، أي لإشباع الحاجات غير المشبعة ، وهو ما نسميه بعملية إعادة التنظيم المجتمعي

وبهدف اشباع الحاجات غير المشبعة  والوصول الى حالة اقرب الى التوازن النفسمجتمعي والتخلص من مشاعر الضيق والسخط والاحباط والظلم المتكونة لدى شرائح هامة في المجتمع ، فان عملية "إعادة التنظيم الاجتماعي Social Reorganization   " Process of   التي تتضمنها العدالة الاجتماعية  لابد ان تتمثل بدور تشاركي بين اجهزة الدولة الرسمية والمؤسسات المدنية من خلال :  
·       استحداث مؤسسات أو سياسات أو إجراءات جديدة
·       تعديل المؤسسات والسياسات والإجراءات الحالية


أن النسق الاجتماعي لا يتاثر كثيرا  بوجود درجة من السخط وعدم الرضا  والشعور بالظلم لدى بعض الفئات في بعض القطاعات ولفترات محدودة ، فهذا أمر محتوم لا يكاد يخلو منه أي نسق اجتماعي ، ولكن انتشار السخط على نطاق واسع أو بشكل عميق ولفترات طويلة يهدد امن و استقرار المجتمع بل وحتى استمرار النسق الاجتماعي كوحدة حية متكاملة.

ان عملية اعادة التنظيم االمجتمعي تقع على عاتق التنظيمات أو المؤسسات السياسية (التشريعية والتنفيذية) بالدرجة الاولى  ، فالنظام السياسي Political System هو الجهاز الموكول له اتخاذ القرارات المجتمعية الأساسية ، وذلك لانه
·        يملك القوة الجبرية لتنفيذ القرارات نائبا عن المجتمع ككل .
·       يوكل إليه اتخاذ القرارات المتصلة بتوزيع الموارد المجتمعية العامة على مختلف القطاعات .

لذا فان النظام السياسي الذي يشخص هذه المشكلات او يتحسسها من خلال الصراعات المجتمعية العنيفة بين فئات المجتمع لابد ان يعتمد اليات لعدالة اجتماعية  تتضمن   استحداث مؤسسات أو سياسات جديدة أو تعديل ما هو قائم منها بوصفه جهازا سياسيا نائبا عن افراد المجتمع  ويفترض أنه يمثلها ، وهذا يعني  أنه يقوم بتحسس الحاجات الهامة غير المشبعة في المجتمع ، وكل هذا يقتضى خطوات منطقية متتالية  تشكل واجبات اي جهاز سياسي تنفيذي وهي :
·       تخصيص موارد لتفعيل البرامج Programs الخاصة بالعدالة الاجتماعية  لمواجهة المشكلات ، وهذا قرار لابد أن يتخذه الجهاز السياسي
·       تحديد المشكلات التي تتطلب الحل أصلا ، واختيار الحلول لتلك المشكلات على شكل اليات منصفة وشاملة في العدالة الاجتماعية ،
·       اصدار قرارات سياسية مناسبة وفاعلة لاعتماد الاليات المختارة .

·       اصدار الاحكام على  أي الحاجات المجتمعية قابلة للإشباع بالوسائل المتاحة .
·       المفاضلة  بين الوسائل البديلة للحل .
·       اتخاذ القرارات لوضع الحلول موضع التنفيذ بتخصيص البنود اللازمة في الميزانية لهذه الأغراض ،
·       إصدار القرارات التي تحدد جهات الاختصاص بتنفيذ البرامج.


أن عملية إعادة التنظيم المجتمعي من خلال العدالة الاجتماعية ينبغي ان  تتم على كل مستويات النسق الاجتماعي (المستوى القومي والمستوى الإقليمي و المستوى المحلي) الا ان  المستوى المحلي هو الذي ينتهي إليه المطاف في الشعور بالمشكلات الاجتماعية ومعاناة آثارها ، ويطلق عليه "عملية تنظيم المجتمع" Community Organization Process.
لذا لابد ان تصب نواتج اعادة التنظيم المجتمعي وبشكل مباشر وسريع نسبيا لحل مشكلات الشرائح المستضعفة والمهمشة والمنتهكة حقوقها فضلا عن  قطاعات واسعة اخرى من المجتمع .

اما دور المؤسسات المحلية المدنية فيتاتى من الجهود التلقائية التي تبذل لمواجهة المشكلات وإشباع الحاجات ، اذ بدون وجود بذرة لتلك الجهود التي يدفعها ويحفز إليها الشعور بالضيق من وجود المشكلات لما كان في الإمكان تصور نجاح في هذا السبيل
لذا فان افراد المجتمع المحلي عندما يحسون بمشكلات اجتماعية ينبغي ان لا يقفوا مكتوفي الأيدي ، وإنما يبدؤون باتخاذ إجراءات لمواجهة المشكلات وإشباع الحاجات على أي مستوى من المستويات– أحيانا بمبادرة من الجهاز السياسي وأحيانا بالضغط على الجهاز السياسي وأحيانا دون مبادرة أو التزام من جانب الجهاز السياسي خاصة فيما يسمى بالعمل التطوعي  وقد تفلح تلك الجهود التلقائية في الوصول إلى حل كاملا او حل جزئي وقد لا تفلح في احيان اخرى .
ولاجل ذلك فان اسهام المجتمع المحلي متمثلا بمؤسساته المدنية في اقتراح اليات لعدالة اجتماعية والضغط على الجهاز السياسي من اجل اعتمادها وتطويرها وتفعيلها يعد خطوة هامة في طريق اشباع الحاجات المجتمعية ومؤشرا رئيسا على نضج وفاعلية المؤسسات المدنية في ذلك المجتمع .

ثالثا : اعادة التنظيم المجتمعي من خلال العدالة الاجتماعية
بدأت المجتمعات – وخصوصا في القرن العشرينتدرك حاجاتها إلى استعمال أسلوب علمي منظم في مواجهة مشكلاتها المجتمعية .
وتعد اليات العدالة الاجتماعية تدخلا منظما لترشيد عملية إعادة التنظيم المجتمعي على المستوى المحلي بشكل يتلافى عيوبها أو صعوباتها وهذا يعني أنه إذا كان بالامكان اعادة تنظيم المجتمع يمكن أن يتم بفاعلية على المستوى المحلي فإنه يمكن أن يتم أيضا على المستوى الإقليمي أو القومي،وذلك من خلال ترجمة الحقوق المدنية الاجتماعية والاقتصادية الواردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والشرعة الدولية الى واقع عملي من خلال عملية تكييف محلي سلوكي وقيمي بين شرائح المجتمع وتمكين الفئات المهمشة والمستضعفة من تنظيم جهودها لمعالجة اوضاعها والمطالبة بحقوقها بهدف الوصول الى حلول مناسبة لمشكلاتها ، الا ان هذه العملية غالبا ما تتعرض الى جملة من الصعوبات التطبيقية تؤدي الى فشل جهود حل المشكلات ، ومن اهم هذه المشكلات :

1)   الجزئية والتشتت في مواجهة المشكلات المعقدة وذلك بسبب عدم وجود تنسيق بين الهيئات والمؤسسات والجماعات المدنية والحكومية التي تسعى لحل المشكلات المحلية مما يؤدى إلى الجزئية والتشتت وفي بعض الأحيان إلى الازدواج والتداخل وتضارب الجهود مما نبه إلى ضرورة وجود جهود واعية مقصودة – تقوم على أساس علمي – للتخطيط للخدمات وتنسيق الجهود من خلال استراتيجية عدالة اجتماعية واحدة يمكن ان تتضمن اليات عدة .
أن الجهاز السياسي ينبغي ان  يعتمد على التكنوقراط من اختصاصات متنوعة ممن يتميزون بمهارات نظرة الضفدع ( النظرة الجزئية التفصيلية ) ومهارات نظرة الطائر ( النظرة الكلية الشمولية ) مضافا لها المهارات الناقدة والتقييمية – التقويمية  في عمليات بلورة المشكلات وتحديدها وإيجاد حلول لها، وبما أن كل متخصص تدرب على رؤية المشكلات من زاوية واحدة هي زاوية تخصصه،– وهذا ضروري من جهة ولكنه يشكل عيبا خطيراً اذ لايسمح عادة  برؤية الصورة الكلية للموقف - فالحقيقة أنه لا توجد مشكلة اقتصادية بحتة أو اجتماعية  بحتة إذ أن الواقع المعاش لا يعرف تلك التقسيمات المهنية الجزئية، بل أن لكل موقف أو مشكلة كليته التي تتنافي مع هذه التصورات الضيقة – صحيح أن تشكيلة العوامل المتداخلة في الموقف قد تتضمن تغليبا لعامل أو مجموعة من العوامل على غيرها ولكن هذا لا يستبعد بالكلية بقية العوامل، ويترتب على هذه النظرة التخصصية الضيقة مشكلات خطيرة إذ عادة ما تأتى رؤية الأسباب وبالتالي حلولها جزئية مشتتة
وإذا كانت الحاجة ماسة إلى "النظرة الكلية" للمواقف والمشكلات الاجتماعية فإنها أيضا تضع عبئا كبيرا على من يقوم بتحليل المشكلات، فالمشكلات شديدة التعقيد والتداخل وقد يعجز غير المتخصص عن إدراك أبعادها المتعددة المتشابكة فيخلط الأعراض بالأسباب الحقيقية .
لذا لابد من اعداد المتخصصين وتدريبهم على مهارات
التخطيط العلمي المنظم الذي يتضمن عمليات تقدير الحاجات وتحديد الأولويات ووضع البرامج وتصميم الخدمات وأيضا التنفيذ والمتابعة. والتقييم .  

2)   ضعف المشاركة الديمقراطية وتأثير التمايز في القوة والنفوذ،
ويتضمن مشكلتان تتمثل المشكلة الاولى  بعملية الإنابة أو التمثيل، فمن الطبيعي أن جميع أفراد المجتمع لا يمكن أن يتجمعوا في مكان واحد ووقت واحد لمناقشة كل مشكلة من مشاكل مجتمعهم المحلي صغرت أو كبرت ولابد أن يتم اتخاذ القرارات بواسطة مجموعة محددة ، والمشكلة أن هذه العملية التمثيلية تؤدى أحيانا إلى درجة من الانفصال بين القيادة وبين الجمهور ، كما أنها تضع كل المسؤوليات المجتمعية على عاتق مجموعة محدودة من الناس الذين يتعلمون وينمون من خلال تلك المشاركة المكثفة بينما يترك المواطن العادي دون أن تتاح له فرصة النمو والتعلم من خلال مشاركته في إدارة شؤون مجتمعه، بل غالبا  ما يشعرهؤلاء الممثلون بنوع من الغيرة السياسية من ازدياد مشاركة بعض الأفراد في الشؤون العامة لمجتمعهم ويرون في هذا تهديدا لنفوذهم السياسي

وهذه بطبيعة الحال أمور تتعارض جميعا مع المبادئ الديمقراطية التي تقوم على "ضرورة" إتاحة الفرصة لكي يساهم كل إنسان في إدارة شؤون مجتمعه كلما كان ذلك ممكنا وهنا تاتي الحاجة إلى المؤسسات المدنية في تشجيع الناس على النشاط التطوعي و المشاركة العامة في صنع القرار وتعليم الناس من خلالها كيف ينجحون وينمون قدراتهم للتصدي لمشكلات المعيشة المشتركة في    المجتمع المحلي


أما المشكلة الثانية فتتمثل في أن النسق السياسي يتعامل أساسا مع ظاهرة القوة الاجتماعية في المجتمعات، ولذلك فالسياسيون شديدو الحساسية للوزن السياسي لكل جماعة أو فئة أو فرد، عندما يأتي دور تحديد الحاجات الأولى بالإشباع أكثر مما تحظى به حاجات ذوى القوى السياسية الأقل، وإذن فإن بناء القوة في المجتمع يؤثر تأثيرا كبيرا على طريقة حل المشكلات المجتمعية، ولما كانت المؤسسات المدنية غير الحكومية  في تاريخها الطويل دائما إلى جانب المستضعفين وذوى الحاجة، فإن اعادة التنظيم المجتمعي  اعتمادا على اليات العدالة الانتقالية قد نشأ لكي يساعد ويدعم جهود المحرومين في الحصول على إشباع لحاجاتهم. كما ان اعتماد اليات التشبيك والمناصرة بين المؤسسات المحلية او بينها وبين المنظمات الدولية من شانه ان يدعم ويزيد من القوة الاجتماعية ووزن الضغط على السياسيين .


أن المجتمعات المعاصرة وجدت أنه لابد من وجود مجتمع مدني غير حكومي وغير سياسي متشابك  يقوم  على أساس علمي ديمقراطي مخطط لمساعدة المجتمعات المحلية على مواجهة مشكلاتها وإشباع حاجاتها بطريقة فعالة، وبشكل يدعم الترابط الاجتماعي في المجتمع، ويزيد من قدرة المجتمع في العمل التطوعي المجتمعي ويعالج المشكلات المجتمعية من خلال اعادة التنظيم المجتمعي اعتمادا على اليات العدالة الاجتماعية  على النحو الآتي:-


1-  اشراك المتخصصين  الاجتماعيين والنشطاء المدنيين  واعدادهم إعدادا علميا وعمليا مناسبا للقيام بهذه المهام

2-  التخطيط المنظم والمشاركة المجتمعية الديمقراطية هما دعامتان أساسيتان للتنظيم المجتمعي تكمل كل منهما الأخرى، فالتخطيط يقدم الأدوات الفنية التحليلية اللازمة لإيجاد أفضل مواءمة ممكنة بين الموارد والحاجات التي تشبع أو لا تشبع ويجب أن يتم على أساس مشاركة المواطنين أنفسهم، كما أن من الضروري اشتراكهم في عمليات التنفيذ والمتابعة والتقييم، وبهذا يتم نموهم والتزامهم بما يتخذ من قرارات.

 3-  الاهتمام بالتنظيم المجتمعي لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال مناصرة الفئات المستضعفة  والعمل على حصولها على حقوقهامن الفئات ذات القوة والنفوذ.

4 - يتم  تنظيم المجتمع بالتعاون بين  القيادات المجتمعية في الأجهزة السياسية  ومؤسسات المجتمع المدني المحلية ومراكز اتخاذ القرارات للتأثير على القرارات المجتمعية لتحقيق الأهداف وترسيخ القيم التي تؤمن بها العدالة الاجتماعية.

وهكذا يمكن ان  يؤدى هذا كله في النهاية إلى ازدياد درجة التماسك والترابط الاجتماعي ، وإلى نمو قدرة المجتمع المحلي على مواجهة مشكلاته بنفسه في المستقبل وايجاد حلول للمشكلات المجتمعية وبخاصة الناتجة عن انتهاكات حقوق الانسان .


 دراسة  منشورة في العدالة للجميع و موقع شاهد عيان 2011

ليست هناك تعليقات: