الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الحوكمة الديمقراطية لحكومة العدالة الشاملة

د. نهى الدرويش
اشتق مصطلح (Governance) في اللغة الانجليزية، الذي يُترجَم إلى العربية عادة بـ (الحوكمة)، من الفعل اليوناني (κυβερνάω [kubernáo])، الذي يعني (توجيه). وقد استعمله أفلاطون في معنى مجازي. ثم انتقل بعد ذلك إلى اللغة اللاتينية، ومن ثم إلى لغات عدة. ويُستعمَل مصطلح(الحوكمة)  بديلا من الترجمة المختصرة للمصطلح  (Corporate Governance). أما الترجمة العلمية المتفق عليها لهذا المصطلح فهي: أسلوب ممارسة الإدارة الرشيدة.
يرى البعض أن الحوكمة تعني النظام، أي وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء، كما تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى البعيد وتحديد المسؤول والمسؤولية. ويتفق الجميع على أنها تعتمد الاهتمام بتطوير الأداء وتحقيق الإفصاح والشفافية والانضباط والعدالة.وهي، بذلك، تعرف بأنها العملية التي يتم من خلالها اختيار الحكومات ومراقبتها واستبدالها، وقدرة الحكم على صياغة وتنفيذ سياسات سليمة على نحو فعال، واحترام المواطنين والدولة للمؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية فيما بينها. وعلى ذلك، لا بد من توافر الوسائل التي من خلالها تدار عملية الحوكمة أو الحكم. على سبيل المثال، قد يختار الناس توقعات ما عن طريق النشاط السياسي يتم بموجبه منح السلطة من خلال العمل السياسي، وربما الحكم على الأداء من خلال السلوك السياسي.
    ولابد من التمييز بين مفهومي الحوكمة والحكومة، فالحوكمة ممارسة حركية لطاقة وسياسة الإدارة، في حين أن الحكومة هي الأداة (عادة  جماعية) التي تفعل ذلك. وأحيانا يستخدم مصطلح الحكم بطريقة أكثر تجريدية، مرادفاً للحوكمة.
تشير المصادر إلى أن أول حالة موثقة استُعمِل فيها مصطلح (حوكمة الشركات) كانت عن طريق ريتشارد ايلس في سنة 1960، وذلك للدلالة على "هيكل وأداء نظام السياسات في الشركات"، إلا أن مفهوم (الحكومة في الشركات) أقدم من هذا، فقد استُعمِل في كتب المالية بداية القرن العشرين. وهذه الأصول التأريخية تدعم تعريف الحوكمة  الذي يشير إلى أهمية تعددية الأصوات (أصحاب المصلحة)، كما يمكن أن يفسر لنا شيوع المفهوم على المجال الاقتصادي أكثر من غيره من المجالات. ولكن المتابعة الدقيقة لتطور هذا المفهوم تؤشر بوضوح مدى تأثره بالقيم الديمقراطية ما دام يعتمد على أصوات المجموعة صاحبة المصلحة في تقييم أداء وقرارات المؤسسة التي يتشاركون فيها، ويبدو أن الحاجة للحوكمة في المؤسسة الاقتصادية كانت الأكثر مباشرة وإلحاحا والأسرع ظهورا وبخاصة اثر الانهيارات الاقتصادية التي تعرضت لها بعض المؤسسات الاقتصادية مما سبب اندثارا  وضياعا لرؤوس أموال المساهمين الصغار الذين صوتوا لأعضاء مجلس الإدارة وهو المسؤول عن رسم السياسات الاقتصادية، والتي اتضح  فيما بعد أنها كانت خاطئة فأودت بمصير أسعار الأسهم إلى الانهيار.
يعد ظهور مفهوم (الحوكمة) أطاراً أخلاقياً يستوجب الشفافية في إعلان السياسات التي تصل إلى حد إشراك المصوتين (المساهمين) على أعضاء مجلس الإدارة، ليس فقط في معرفة وتقييم السياسات بل في مناقشتها واقتراح سياسات جديدة، والتدخل الايجابي في تنفيذ السياسات بما يحقق مصلحة المجموعة. وهذا يعني أن حق الناخب لا ينحصر في التصويت فقط، بل يتعداه إلى المشاركة الايجابية في التشريع ودعم التنفيذ. وبهذا فقد أخرجت الحوكمة شخصية الناخب من دورها السلبي بوصفه متلقياً لنتائج سياسات يصوًت فيها على اسم مشرعها، إلى ناخب إيجابي واع يصوت على فلسفة برنامج لمرشح معين، ويفهم هذا أيضا في إطار الخروج من نطاق الشكلانية إلى نطاق الجوهر والمعنى، مثلما يفهم أيضاً في إطار انهيار الدكتاتوريات الفردية أو الجماعية أمام نجومية الفلسفة السياسية الحكيمة على صعيد العملية الانتخابية. وهذا بالتأكيد يعطي قوة للتصويت على برنامج أو إستراتيجية معلنة وشفافة  تتصف بالانتظام في خطط زمنية وذات أهداف محددة وواضحة ويمكن التنبؤ بمخرجاتها حتى بوجود ظروف قاهرة أو طارئة أو استثنائية، أكثر من التصويت على أسماء شخصيات تنطوي على الكثير من الغموض ويمكن أن تغير جلدها في أية لحظة تبعا للمصالح الشخصية غير المعلنة أو المستجدة أو الأهواء والانفعال أمام الظروف الطارئة أو المستجدة أو القاهرة وحتى الاعتيادية في بعض الأحيان. وكل هذا حقق مجالين للثقة، يتمثل الأول بثقة الناخب بمؤسسته الخاضعة لمعايير الحوكمة العقلانية الرشيدة، والآخر يتمثل بثقة المشرع وراسم السياسات في كون الناخب يشاركه مسؤولية التخطيط ودعم التنفيذ لتحقيق الأهداف، فضلا عن تقليل فرص الاحتكار الفردي والمؤسسي للمكاسب والمخرجات على حساب مصلحة الناخب، وبهذا فقد جمعت الحوكمة كلا من الناخب والمرشح في مركب واحد يحدد مصيره جودة التخطيط والتنفيذ للإستراتيجية أو البرنامج المتعاقد نيابيا عليه وبموجبه. وبهذا يمكن القول أن الحوكمة هي الوجه العقلاني للممارسة الديمقراطية في الحكم.وهي أيضاً ما يقصد به بالحكم الرشيد. وهذا يفسر شمول الحوكمة لجميع المؤسسات الاقتصادية  والثقافية وغير الحكومية مثلما يشمل مؤسسات الدولة التي ينبغي أن تخرج من النطاق الحزبي، فردياً كان أو تعددياً، إلى النطاق السياسي الديمقراطي الرشيد المتمثل بإعلاء مبدأ المواطنة فوق الهويات الفرعية المتعددة بتعدد ألوان طيف جمهور الناخبين سياسيا وقوميا واثنيا، وهو في الوقت نفسه ما يجعل من المحاصصة السياسية أو التوافقية أكبر التحديات التي تواجه حوكمة الدولة. والحكومة إذ تحتاج الحوكمة إنما تحقق ضمانا لمعايير عالية الجودة وشاملة وهي التي تحققها من خلال الخبرة والتخصص وليس الموقع السياسي.
وبهذا تمثل الحوكمة وعاء الدولة الديمقراطي الذي تنصهر فيه البرامج  السياسية للأحزاب والمرشحين لتنتج فعلا مواطنياً مستداما وتنمويا عالي الجودة.
إن دور الدولة في تطبيق الحوكمة دور تشريعي ورقابي، فمهمات الدولة تتمثل بإنشاء القوانين المنظمة لوضع مبادئ الحوكمة وتطبيقها. ولا يقتصر ذلك على هذين الدورين، بل هو يمتد إلى التزام الدولة ومؤسساتها بتطبيق مبادئ الحكم الرشيد داخل مؤسساتها الإدارية والاقتصادية، وانعدام هذا الالتزام ـ بالتأكيد ـ يؤثر سلبا على تطبيق مبادئ الحوكمة في القطاعات الأخر، وسيفقد الدولة ثقة المجتمع المحلي والدولي بها على حد سواء.

 المؤشرات العامة للحوكمة  
لقد تم بذل جهود كبيرة لتهيئة معايير دولية لقياس الحوكمة بهدف المقارنة وتقييم المؤسسات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. وتمثلت هذه الجهود بمشروع (المؤشرات العالمية لإدارة الحكم)، التي وضعت من قبل أعضاء في البنك الدولي ومعهد البنك الدولي. وقد اعتمد المشروع مؤشرات مجمعة و فردية لأكثر من 200 دولة  تم توحيدها في ستة أبعاد للحوكمة، هي: التصويت والمساءلة، الاستقرار السياسي وانعدام العنف، فعالية الحكومة، الجودة التنظيمية، سيادة القانون، ومكافحة الفساد.
وقد تم تطوير مؤشرات عالمية للحوكمة العالمية لتحقيق التنمية من خلال اعتماد مؤشرات دولية وأرقام قياسية ومشاركة الجمهور. هذه المؤشرات هي: السلام والأمن، سيادة القانون، حقوق الإنسان والمشاركة، التنمية المستدامة، والتنمية البشرية.



 الحوكمة التشاركية
وتعد الحوكمة من المفاهيم الأساسية التي ولجت مؤخرا  فلسفة الديمقراطية وتطبيقاتها في شتى ميادين العمل المؤسساتي في بلدان العالم السائر نحو الديمقراطية. ويبدو هذا متسقا مع التوجه العالمي نحو الالتزام باحترام وتطبيق حقوق الإنسان،  لذا فقد سارعت الدول ذات التوجه الديمقراطي لاستنباط معايير مشتركة للحوكمة بهدف إتاحة الفرصة بشفافية لتقييم أداء حكوماتها. مما أتاح الفرصة لظهور الحوكمة التشاركية التي تركز على تعميق المشاركة الديمقراطية من خلال مشاركة المواطنين في عمليات الحوكمة مع الدولة. وتستند فكرة الحوكمة التشاركية إلى أن المواطنين يجب أن يلعبوا أدوارا مباشرة في عملية صنع القرارات العامة، أو على الأقل الدخول بعمق أكبر في القضايا السياسية، وأن على المسؤولين الحكوميين أن يستجيبوا لهذا النوع من الاشتباك في الممارسة العملية. وبهذا، يمكن للحوكمة التشاركية أن تكمل أدوار المواطنين، من حيث هم ناخبون ومراقبون، من خلال أشكال الرقابة المباشرة للمشاركة.
وإذا كان للمرء أن يلخص الهدف من الحوكمة الديمقراطية لأية حكومة فهي، مثلما عبر عنها السفير الفرنسي فرانسوا زيمري، تعني "تحويل حقوق الإنسان إلى حقوق"، أي الانتقال من المثال المُثار إلى المعيار المُطبق. ومما لاشك فيه أن هذا اللقاء بين المثال والواقع هو الجزء الأكثر صعوبة في عمل أية حكومة، فهو يعني مواجهة كل الحواجز التي يضعها العالم أمام تقدم الحقوق. وهذا يعني أن تكون الحكومة على مستوى عال من الكفاءة والنضج الأخلاقي الديمقراطي بحيث يمكنها تجاوز حدود مكوناتها الحزبية الضيقة بإعلاء مصلحة الوطن الفضلى من خلال الالتزام بإستراتيجية الدولة وليس إستراتيجية حزب أو أحزاب متعددة تمزق أهداف التنمية بمحدودية وتنافر أهدافها الضيقة أمام أهداف مستقبل المواطنين في التنمية، كما تتطلب أن تواجه الحكومة الركام السلبي لمصالح الفئات النوعية والعرقية والدينية والقومية في كفاح يستند إلى تطبيق حقيقي لشعارات (مستقبل المواطن في وطنه أولاً)، و(الكل سواسية أمام القانون)، و(العدالة للجميع)، وما إلى ذلك. وهذا يعني مواجهة لكثير من أدران العادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات والأفكار والرؤى والتصورات التي تشكل تحديات كبيرة أمام السلام والأمن وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمشاركة المواطنية والتنمية المستدامة والتنمية البشرية. وترى الباحثة أن مواجهة كهذه تحتاج إلى بطولة موقفية وقانونية تتجاوز التلصص الاندساسي إلى صناديق الاقتراع القادمة، ولكنها حتما ستترك بصمة على تاريخ البلاد ومستقبل مواطنيه، وهذه هي المسؤولية الحقيقية التي تقع على عاتق الحكام الديمقراطيون نهجا وأخلاقا.
إن ضرورة تولي المسؤولية والالتزام بها يجب أن تكون في قلب العمل الحكومي (فعل ما نقوله إلى جانب قول ما نفعله أيضاً). وهذا يعني الالتزام بالتطبيق إلى جانب الشفافية، كما يتطلب وضع مؤشرات للمتابعة وتقويم فاعلية السياسة المعتمدة في تنفيذ استراتيجية الحكومة. كل ذلك هو بمثابة متطلبات في الكفاح من أجل حقوق الإنسان وخدمة المبادئ التي التزمت بها الدولة من خلال الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها فضلا عن تفعيل المواد الدستورية، وكل هذا يحقق بالنتيجة مصالح وتطلعات الناخبين  الذين وضعوا فيها أملهم.

 الاستراتيجية  الحكومية للحوكمة والديمقراطية
ولتحقيق ما ورد أعلاه، ينبغي أن ترتكز الإستراتيجية الحكومية للحوكمة والديمقراطية على اعتماد مقاربة وطنية لحقوق الإنسان إذ يشكل تشجيع وحماية حقوق الإنسان وعمليات الدمقرطة مكوناً أساساً من مكونات السياسة في الدولة، وينبغي أن يمر عبر أعمال سواء على المستوى السياسي والدبلوماسي أو الوطني والدولي، لذا لابد أن تتضافر جهود التفعيل مع أعمال تعاون ودعم لمواضيع تحظى بأولوية الجمهور. ثم تندرج هذه السياسة في إطار الإستراتيجية الوطنية لللحوكمة  الديمقراطية.
ولابد آن تتجاوز هذه المقاربة الوطنية للحوكمة الديمقراطية قضية المؤسسات الوحيدة. وتتمسك بعمليات بلورة القرارات وتنفيذها ومشاركة الجهات الفاعلة بغية تشجيع دولة  الحق والقانون وحماية الحريات الفردية والدفاع عنها. وتستهدف هذه الإستراتيجية حماية الحق في حياة كريمة، ومكافحة التمييز والتمتع الكامل بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كما لابد إن تتجاوز هذه المقاربة الخطط المؤقتة سواء ما كان منها سنوية أو خمسية أو حتى عشرية، ذلك أن هذه المقاربة تعتنق في إطارها الحقوق الأساسية التي يقرها أي دستور ذو هوية ديمقراطية والمعتمدة أصلا على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، وهذا ما يمنحها البقاء والاستمرار وجوبا في التطبيق محليا ودوليا، وهذا يعني إنها ستشكل منطلقات فكرية أساسية  للفلسفة الديمقراطية التي يعتمدها نظام الدولة الديمقراطي. وهنا، تبرز بوضوح سلسلة التحديات التي تواجهها الدول المتجهة نحو الديمقراطية، ولا سيما في الشرق الأوسط وبلدان العالم الثالث وتلك الدول التي كانت تسمى (الدول النامية)، التي توقف نموها، لأسباب تخطيطية ـ سياسية.

 الحوكمة وتحدي التحول نحو الديمقراطية
تعاني المجتمعات المحكومة من قبل الأنظمة الشمولية جملة من الانتهاكات للحقوق وتقع الانتهاكات التي تمس الحريات والحقوق الأساسية في مقدمتها. وعند القضاء على نظام حكم شمولي يكون السير في ركب المجتمعات الديمقراطية مازال بعيد المنال، فالانتهاكات السابقة للحقوق والحريات تدفع الآلاف من الضحايا وذويهم إلى الانفلات في ممارسات  فردية  عنيفة للثأر من أتباع النظام الشمولي السابق، في الوقت الذي ينفلت فيه عنف هؤلاء الأتباع ضد الضحايا وضد النظام الجديد وتتجسد هذه المواجهات العنيفة في تقسيمات إثنية، أو دينية، أو طائفية، أو مناطقية، أو ما إلى ذلك. وغالباً ما تكون غير مقصودة سياسيا في بدايتها وتحت شعار (إن لم اقتله فسيقتلني)، حتى تتطور بسرعة بفعل التكتلات التي انقسمت بسببها فتتحول إلى صراعات مقصودة سياسيا تأخذ صفة الاستمرار النسبي وبشكل أكثر عنفا وتشددا وتصلبا، فتنشأ الحروب الأهلية وتتفاقم في ظل غياب سلطة الحق والقانون، التي استباحها مسبقا النظام الشمولي الذي يستند إلى (منطق حق القوة وليس قوة الحق). وتزداد الأوضاع سوءا وعنفا عندما تتكتل قوى من حملة السلاح تتبنى أجندات سياسية (ذات طابع تمييزي متشدد وعالمي) مبطنة خلف شتى أنواع الهويات والانتماءات متعكزة على تاريخ الضحايا من الطرفين، فتتحول بذلك قضايا الضحايا إلى صراعات بين عصابات ومليشيات متضادة، فتغيب فكرة معالجة الانتهاكات الماضية وتتناسل شخصية الجلاد على نحو أميبي إلى عشرات ومئات النسخ، وتتورط فئات وأفراد وضحايا سابقون في جرائم وانتهاكات كثيرة تجعل من قضية فصل الأدوار بين الجلاد والضحية أمرا بالغ التعقيد على مستوى تحقيق العدالة الجنائية وعدالة جبر الضرر.
 وما أن تخرج هذه المجتمعات من مرحلة الصراع حتى تكون قد استنزفت قواها الداخلية بشكل مذهل، فضحايا العنف لا يستهان بهم كما ونوعا وكلهم يتطلعون إلى معالجات فورية لإرث الانتهاكات السابقة واللاحقة، والتي أفرزت ضحايا مخضرمين، وضحايا وجلادين تبادلوا الأدوار بشكل انفعالي عندما تم تجاهل اعتماد لغة الحوار والمنطق لحل المشكلات العالقة والمستمرة.
إن عملية الانتقال اللاسلمي من نظام الحكم الدكتاتوري إلى نظام الحكم الديمقراطي  وما يرافقها من حجم الانتهاكات والصراعات الناشئة عنها تتناسب طرديا مع شدة تسلط النظام الدكتاتوري السابق وعمق انتهاكاته لحقوق الإنسان، ومع انهيار المنظومة القانونية السابقة،ولحين تنظيم المنظومة العادلة الجديدة، تقع فجوة زمنية خطيرة يتم فيها الاحتكام إلى شعار (أنا القانون). لذا، تبرز الحاجة إلى نوع من العدالة أوسع رؤية وأسرع تطبيقا من العدالة الاعتيادية، عدالة انتقالية تعالج ارث الانتهاكات لحقوق الإنسان التي تجاهلها نظام الحكم الشمولي وشوه معالمها ازدواجية دوري الضحية والجلاد، وفك الاشتباك هذا يحتاج إلى وعي بأخلاقيات مبادئ حقوق الإنسان، وتطبيق ينسجم مع طبيعة وخصوصية ذلك المجتمع، وغالبا ما تحتاج هذه المرحلة إلى تدخلات إنسانية على صعيد التوعية والتثقيف والإغاثة والاستشارة والمساعدة والإسناد تقدمها منظمات إنسانية دولية متخصصة في هذا المجال.
وعلى هذا يمكن تعريف العدالة الانتقالية أثناء فترات ما يسمى بـ (الانتقال السياسي) بأنها التفعيل العملي الأمثل للآليات والأدوات المتنوعة لمواجهة الإرث المؤلم لانتهاكات حقوق الإنسان في الماضي بهدف تأسيس أو ترسيخ الثقة المجتمعية، و الحيلولة دون تكرار حدوث هذه التجاوزات بما يسمح لمصالحة مستديمة ومستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. وتشمل العدالة الانتقالية تفعيل مبادئ العدالة الجنائية، وعدالة إصلاح وتعويض الضرر، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية، كما ترتكز على مبدأ السياسة القضائية المسؤولة التي تضمن تحقيق هدفٍ مزدوجٍ وهو المحاسبة على جرائم الماضي ومنع حدوثها في المستقبل.
في الشكل المثالي للعدالة الانتقالية يتم تبني أربعة استراتيجيات لتحقيق العدالة الانتقالية، هي:
1.     إستراتيجية العدالة الجنائية: وتتضمن محاسبة ومحاكمة الجناة تحقيقا لمبدأ (لا إفلات من العقاب) لتطمين الضحايا باحترام حقهم في ردع  ومعاقبة جلاديهم  ومنتهكي حقوقهم، مما يزيد من حجم الثقة بالعدالة واحترام حقوق الإنسان. إلا إن الواقع يؤشر أن حجم الانتهاكات وعدد الضحايا وطول فترة ارتكاب جرم الانتهاك سيضعف اعتماد هذه الإستراتيجية بسبب اندثار الأدلة، وأحيانا عدد كبير من الضحايا، أو عدم وجود الأدلة الكافية لإدانة الجناة، أو ضعف دافعية الكثير من الضحايا لرفع دعاوى قضائية أو خوفهم من الإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء، كما أن هناك الكثير من المعوقات لتطبيق هذه الإستراتيجية منها عدم توافر عدد كبير من القضاة للنظر في دعاوى الانتهاكات مما يتطلب مدة زمنية قد تصل إلى سنوات فتزيد الأدلة ضعفا واندثارا، كما أن نوع المحاكم المختصة للنظر في هذه القضايا لكل منه سلبياته ونقاط ضعفه. لذا يتم تشكيل لجان عدة لتقصي الحقائق وجمع الأدلة والوثائق والكشف عن الحقيقة وغيرها من اللجان التي تحتاج إلى آليات تنظيم لعملها وتدريب العاملين فيها وكل ذلك يتطلب مهارات وأموال ووقتا كثيرا مما يجعل عملها يمتد إلى سنوات، وغالبا ما يتم الاكتفاء بمعالجة كل هذا من خلال محاكمة الجناة المتهمين بانتهاكات خطيرة وواسعة، والبدء بعملية مصالحة بين الأطراف المتنازعة في حال غياب الأدلة والوثائق والشهود وكثرة أعداد الضحايا وتعدد أطراف وعدد المنتهكين للحقوق.
2.     إستراتيجية عدالة جبر الأضرار: هناك جدل فلسفي وفقهي قانوني حول مفاهيم مثل العدالة والإنصاف والآليات التي يتم العمل بها على وفق كل مفهوم، وغالبا ما توضع خبرات المجتمعات التي مرت بحالات انتهاك واسعة ومنوعة على محك تطبيق هذه الآليات واختيار الأنسب منها. إن إنصاف ضحايا الانتهاكات يتطلب عدلا في تحديد وتصنيف الضحايا والانتهاك الذي تعرضوا له من حيث الكم والنوع والشدة والمدة الزمنية وآثاره المادية والمعنوية والنفسية، ويبدو هكذا الأمر صعبا للغاية في مجتمع منهك من الصراع وصدمة التحول، وتؤشر تجارب المجتمعات الأخرى إن أفضل الوسائل هي إشراك الضحايا في هذه المهمة، ويصار إلى تعويضات مادية عندما يكون عدد المتضررين قليل نسبيا، ولكن غالبا ما يكون عدد الضحايا كبير وحجم الانتهاكات كبيرا، وفي هذه الحالة يتم تقديم تعويضات عامة بتحسين سريع على مستوى أداء الخدمات والتعليم الصحة وتعويضات مادية تعطى بدفعة واحدة وتعويضات معنوية مثل إنشاء متاحف للذكرى ونصب تذكارية وإطلاق أسماء الضحايا على بعض الأماكن وغيرها، ولعل من أهم الإصلاحات التعويضية التي غالبا ما يتم إغفالها هي تقديم الرعاية وإعادة التأهيل النفسي والمجتمعي للضحايا. ورغم كل هذا يبقى السؤال الكبير هل يستطيع الضحية أن ينسى؟ ويبدو أن عملية إدماج الضحية في النشاطات المدنية والإنسانية إجراء مفيدا وهذا هو ما يجب أن تقوم به منظمات المجتمع المدني.
3.     إستراتيجية العدالة الاقتصادية والاجتماعية: إن الفصل بين العدالة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية أمرا بالغ الصعوبة لترابط هذين الجانبين في التأثير والتأثر، وهكذا يتم التعامل في هذا الجانب من قبل جميع الاتفاقات والمعاهدات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.
إن العدالة الانتقالية تعد تمهيدا لتطبيق محلي هادئ لمبادئ حقوق الإنسان في المجتمعات الخارجة من نظام حكم دكتاتوري أو صراعات أو نزاعات مسلحة أو حروب أهلية، وغالبا ما يتم التعامل مع ملف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصعوبة بالغة وبطأ واضح بسبب خطط الموازنة بين إنعاش الاقتصاد وإنعاش مستوى دخل الفرد، فغلبة الجانب الأول يثير حفيظة وتذمر الناس، وغلبة الجانب الثاني يوقع مستقبل البلاد والتنمية في أزمة مستمرة، كما أن سوء استعمال الحريات المفاجئة وغياب المنظومة القانونية وضعف أجهزة الرقابة والشرطة واستشراء الفساد السابق وكل هذا يرافقه ضعف الوعي العام بأهمية التضامن والشراكة للبدء بمرحلة جديدة، كل هذا يسبب مشاكل جمة يصعب فك شباكها الأمن خلال معالجات تتضمن خطط إصلاح اقتصادي واجتماعي طويلة المدى.
ويعد الإصلاح المؤسسي لموظفي الدوائر وجهاز الشرطة والأمن والقضاء من أهم الإجراءات وأكثرها تعقيدا، ولا يمكن وضع نموذج واحد لعدم تشابه الشروط الموضوعية المؤدية إلى هذه المشكلات بين مجتمعين في اقل تقدير.
ولا بد من الإشارة إلى أن إطلاق مبادرة دعم العدالة الانتقالية من خلال اعتراف الدولة والمواطن بجملة من الحقوق والعمل على احترامها، وهي: الحق في معرفة الحقيقة، الحق في العدالة، الحق في التعويض، شرط عدم التكرار، إجراء إصلاحات مؤسسية، إصلاح أنظمة الأمن، نزع السلاح، التسريح وإعادة الإدماج.

 تحقيق العدالة الانتقالية في العراق
إن تجربة العراق في التحول من النظام الدكتاتوري إلى نظام ديمقراطي لها خصوصيتها وتفردها كونها لم تتم عبر الآليات التقليدية من داخل البلد بل تمت بفعل عسكري خارجي، مما برر الكثير من أعمال العنف لبعض الأطراف السياسية المتصارعة قديما وحديثا سواء على صعيد السياسة الداخلية أو الخارجية، فضلا عن أن السعي الجاد لتطبيق إستراتيجيات عدالة انتقالية في العراق كانت له من التحديات التي يصعب تناولها في هذه الورقة البحثية، لذا فان حاجة العراق إلى تطبيق هذه العدالة أمر لابد من الوقوف عنده كثيرا وبخاصة بعد الانسحاب الكامل لقوات التحالف من العراق، وهناك أسئلة لابد من مناقشتها قبل البدء بأي قرار: كيف سيتم التعامل مع إرث الانتهاكات التي حدثت قبل 2003 ؟ والتي حدثت ما بعد 2003؟ هل كانت مرحلة ما بعد 2003 حقا مرحلة انتقالية اعتمادا على الانتهاكات السابقة؟ هذا يعني الحاجة إلى مرحلة انتقالية بعد انسحاب قوات التحالف لمعالجة إرث الانتهاكات لما بعد 2003؟ إذا سلمنا بان مرحلة ما بعد 2003 مرحلة انتقالية فمتى تبدأ الحكومة بمرحلة دعم العدالة الانتقالية؟ البعض يشير إلى تسميات لحكومات ما بعد 2003، من قبيل: حكومة انتقالية، حكومة وطنية، حكومة توافق وطني، فمتى تكون حكومة عدالة انتقالية؟ أو حكومة إصلاح انتقالي؟





 جدوى برنامج عدالة منصفة وشاملة في العراق
إن حجم المشكلات السياسية التي انعكست سلباً على حياة المجتمع العراقي منذ عام 2003 وما رافقها ونتج عنها من مشكلات اجتماعية واقتصادية تتطلب برنامجا واقعيا لعدالة انتقالية منصفة وشاملة في العراق، وهذا لن يتم ما لم يكن للحكومة إيمان حقيقي بجدوى هذه العدالة لإنهاء أزمة الحكم السياسي، والتي تتمثل بـ:
·        إحراز الاهتمام والتوجه الدولي الواسع النطاق، نحو ضرورة تقديم المسؤولين عن ارتكاب الجرائم والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان إلى المحاكمة. من خلال تشكيل محاكم مختلطة  عن الجرائم  التي ارتكبت بحق الإنسان والوطن في العراق بضمتها جرائم الفساد المالي وغسيل الأموال في العراق.
·        بلورة مفهوم واقعي لأفضل صيغة للتعايش في المجتمعات التعددية، وهو تحقيق المصالحة بين الأطراف المتحاربة أو المتنافسة والمكونة للمجتمع من خلال مصالحة شاملة، مما يؤدي إلى استقرار الأوضاع العامة وتحقيق السلم الأهلي.
·        إعلان مبدأ تصفية آثار ومخلفات الماضي بأسلوب حضاري لمعالجة الاحتقان والتوتر، والنصرة للضحايا وذويهم، عبر استحداث برامج وأنشطة اجتماعية وثقافية ومالية، من قبيل إقرار مبدأ التعويضات للضحايا والتشجيع على نشر قصص التسامح بين الناس، أفرادا أو جماعات، عبر وسائل الإعلام.
·        السعي الحثيث لأحداث تطور اقتصادي واجتماعي وسياسي.
·        إشاعة عمليات المراجعة والإصلاح لكافة البرامج الحياتية، بما ينسجم والأوضاع المستحدثة خصوصاً برامج التعليم، والأداء الاقتصادي، والحياة السياسية، والبرامج الاجتماعية، والمشهد الثقافي والإعلامي.
إن احترام حقوق الإنسان عنصر مركزي لا بد أن يتوافر في البرنامج الحكومي، ولا بد أن تتمحور حوله برامجُ التعاون في هذا الميدان لكون العدالة الانتقالية مولودة من رحم مبادئ حقوق الإنسان. لذا، لا بد أن تتناول الأولويات التي يجب الدفاع عنها بقوة على الساحة السياسية، محليا ودوليا، وتسمح بتطبيقها عملياً  ضمن إستراتيجية تتضمن: احترام الحريات الأساسية، وحقوق الأطفال، وحقوق النساء، وحرية التعبير، ومكافحة الإفلات من العقاب، ودعم العدالة الجزائية، ومكافحة عقوبة الإعدام والتعذيب، وإدانة الاختفاء القسري ومكافحته، ودعم المدافعين عن حقوق الإنسان، ومكافحة الاتجار بالبشر، ومكافحة التمييز المرتبط بالنوع.
ومن جهة ثانية، لا بد من تشجيع حقوق الإنسان على مستوى أفقي من خلال: منع الأزمات والسعي لإحلال الأمن والسلام، وإصلاح قطاعات الأمن أو العدل، وضمان أفضل شفافية في توزع الثروات الطبيعية.
ولعل الدفاع عن حقوق النساء هو من الأمثلة البارزة على الأدوات ومميزات النجاح  أمثلة، إذ تشكل حقوق النساء إحدى أولويات العمل في مجال احترام حقوق الإنسان وحمايتها. وتؤكد القرارات الأممية أن النساء، اللواتي غالباً ما يكنّ أكثر ضحايا النزاعات المسلحة، يمكنهن لعب دور أساسي في بسط السلام وإعادة البناء بعد مرحلة النزاع.
ومن الأمثلة الأخرى، كذلك، حماية الطفولة، التي ينبغي أن تشمل حمايةَ الطفولة في النزاعات المسلحة، والقضاء على بغاء الأطفال، واحترام حقوق الأطفال المعوقين، ومكافحة التمييز المرتبط بالميل الجنسي والهوية الجنسية.
ومن الأمثلة المهمة، هنا، حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين غالباً ما يتعرضون إلى تهديدات مباشرة بسبب التزامهم بالدفاع عن احترام الحريات الأساسية، وتتم عرقلة نشاط منظمات المجتمع المدني بانتظام (مصادرة وثائق، أو سرقة معطيات، أو ملاحقات قضائية، أو ما إلى ذلك).

 خريطة الطريق إلى العدالة والسلام الدائم 
ينبغي أن تكون هناك مجموعة من الالتزامات الدائمة والثابتة عن حقوق الإنسان تلتزم بها الحكومة. هذه الالتزامات هي:
·        تشجيع حقوق الإنسان بطريقة أفقية في كل القطاعات، وعلى وفق استراتيجيات معتمدة في مجال الحوكمة الديمقراطية والهوية الجنسية.
·        تركيز العمل على أولويات السياسة الوطنية  في مجال حقوق الإنسان. هذه الأولويات يمكن أن تشمل: حماية حقوق النساء ومكافحة أعمال العنف ضدهن، وحماية الطفولة في أثناء النزاعات المسلحة، ومكافحة الإفلات من العقاب والاختفاء القسري، وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
·        تقوية الشراكة المتعددة الأطراف مع منظمات المجتمع المدني.
·        تشجيع التدريب في مجال حقوق الإنسان الذي ينبغي أن تؤمنه المراكز والوحدات الجامعية أو المدنية.
·        مواكبة الجهود وأعمال المنظمات المدنية من خلال الحوار وتقديم مساعدة تقنية ذات طابع وطني، لمدة قصيرة أو طويلة الأمد.

 إجراءات فحص التحول نحو الديمقراطية
لا يمكن البدء بمرحلة التطبيق الصحيح للديمقراطية في العراق ما لم تتم حوكمة الحكومة، من خلال منظومة القوانين الفاعلة التي تلتزم بها على وفق المعايير الدولية للحوكمة. وتتمثل هذه المنظومة بـ: قانون التصويت والانتخاب الذي يتمثل بضمان أصوات الأغلبية الواعية، وضمان قانوني للشفافية والمساءلة، ودستور دائم وواضح يضمن الاستقرار السياسي، ومنظومة قانونية ومجتمعية تضمن انعدام العنف والتمييز بإشكاله كافة، وتقييم أداء فعالية الحكومة وأحكامها بضمان صوت الناخب، ومنظومة قانونية إدارية محكمة بضمان الجودة التنظيمية، وسيادة القانون واستقلال ونزاهة القضاء، ومنظومة قانونية جزائية نزيهة لمكافحة الفساد.


مراجع مفيدة

·        وثيقة المفوضية الأوروبية في http://ec.europa.eu/governance/docs/doc5_fr.pdf

·        البنك الدولي ، وإدارة التنمية -- البعد الحكم ، عام 1991 ، واشنطن
·        المركز الدولي للعدالة الانتقالية
·        الموقع الالكتروني لمنظمة المجتمع العراقي النموذجي – برنامج العدالة للجميع – مصادر

بحث منشور في كتاب " ابحاث ودراسات في تجربة العدالة الانتقالية في العراق " 2011

ليست هناك تعليقات: