الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

أكـثـر مـن مسـرح وسـؤال Sunday, May 10, 2009 | قراءة في " خارج نطاق التغطية "

       د. نهى الدرويش
ماذا يحدث لنص مسرحي يحمل مواصفات ثقافة عالمية عندما يجري تكييفه على ثقافة محلية ؟ بلا شك سيجيب من يريد وضع النقطة في نهاية الجملة ليوقف انسياب الفكرة : ان الثقافة العالمية تستبطن في قضاياها الجوهرية كل الثقافات المحلية كونها متظمنة فيها اصلا . لا اعتراض على هذا الجواب , ولكن دعونا نمسح النقطة ونضع بدلا منها فارزة لنسمح للفكرة ان تنساب وتستكمل متن استهلالها على النحو الاتي : نعم لا خلاف ان القيم الانسانية واحدة , وان الصراع بين الخير والشر متفق عليه الا ان مسرحية " خارج نطاق التغطية " لمعدها د.كريم شغيدل ( عن مسرحية مشعلوا الحرائق ) ومخرجها كاظم النصار , لها بعض الخصوصية في هذا المحور تحديدا , فالمسرحية بنصها الاصلي استولدت ضمنيا مسرحين الا ان ابداع كل من المعد والمخرج جعلا عملية الاستيلاد ضمنا مستمرة لاكثر من مرة في ان واحد , لقد نجحا في تجسيد فكرة المسرح التوليدي بأكثر ما يمتلكان من طاقة . كيف ذلك ؟ لو تمعنا في النص الاصلي لوجدنا نصا مسرحيا يحمل في طرحه فكرة مسرح يمثل حياة وثقافة مجتمع يتعرض لجريمة التدمير - الحرق المتعمد - ( وهو المسرح رقم 1 ) ويوظف مسرحية هاملت مقدمة ومدخلا تقنيا لفكرة الصراع التي تستفحل مع سياق النص ( وهي المسرح رقم2 ) ثم سحب شخصية الشبح من مسرحية هاملت وتذويتها في شخصية المؤلف للمرسح رقم 2 , ثم انبثاق شخصية الحارس في المسرح رقم 1 الى شاشة عرض على المسرح التاريخي للدلالة على فرصة الشاهد الوحيد للاعلان عن الدرس المستوحى من المسرحين 2,1 . ولو تمعنا في الشخصيات المدغمة في تواريخها الذاتية والمجتمعية على نحو مركب احيانا ومعقد في احيان اخرى لاكتشفنا المسرح رقم 4 وهكذا لكل تحليل شخصاني فيها . ان هذا التنوع والاثراء في عرض فلسفات المسرح قل ما - ان لم يكن من النادر - ان نعثر عليه في مسرحية واحدة , ويعود هذا في تقديري كمتذوقة للمسرح الى وجود اكثر من لمسة ابداعية في هذا النص بدءا من مؤلفها الى معدها ثم مخرجها , لقد اراد كل واحد منهم ان يقول شيئا يضيفه الى ماقاله الاخر , وقد فعلوا , ولعلهم في هذا يختلفون عمن سبقهم ممن كيفوا نصوصا مسرحية لعرقنتها محليا . لقد تجرأ المعد والمخرج للغور في مضمون الفكرة وتطويع الحوار والحركة لاضافة فكرة جديدة واستعانوا بكل طاقات المسرح لادغام الجهد والابداع المحلي بالجهد والابداع العالمي حتى لتحار اين موطن التداخل واين موضع التغيير .

        كذلك لا يبدو لي ان فكرة الصراع بين الخير والشر كانت هي الوحيدة القائمة في العمل المسرحي بوصفها محور العقدة , لقد تجاوز هذا العمل حدية هذه الثنائية ومزقها في النهاية بظهور الشاهد الوحيد " الحارس " ليعلن شهادته ويرمي بحكمته التقويمية لما حدث وما سيحدث , فما حدث كان بكل بساطة هو ماحدث ويحدث في كل زمان ومكان : مجتمع ( مسرح ) يسوده الصراع من اجل السلطة ( التاج ) والوسائل اللا مشروعة للحصول عليه ( خيانة ام هاملت لزوجها وطمعه في السلطة ) ثم سقوط السلطة ( الدوران حول التاج الملقى ارضا ) والعلاقات المجتمعية التي يسودها الشك والماضي الغامض ( الشبح ) , مجتمع تنخر فيه العقدة الاوديبية ( مسرحية هاملت بتتالي فصولها ) في صميم حياتها ( مالكة المسرح امرأة ) وبرغم قوتها الظاهرية وسطوتها على افراد مجتمعها ( زوجها ) الا انها تضعف وتحتار في مواجهة الاخر ( الضيف ثم الضيف الاخر ) الا انها تقاوم الاغراء ( الذكوري ) وترفض الانسياق , غير انها لا تمتلك القوة للكفاح والرد والمقاومة ( المؤلف قتل ) ولم يعد امامها الا ان تصاب بالهزيمة والاحباط ( النوبة القلبية ) . ولا ارى في شخصية المرأة ضعفا جندريا مثلما قد يبدو للملاحظة الاولى , ان ضعفها ( الحياة ) لم يكن الا من ضعف افراد مجتمعها ( زوجها ) الذي ما فتئ يردد بسذاجة ( بصوت عال مسموع ) عبارات الانتقام والقتل والموت , التي استثمرها الغريب ( الضيف ) ليرمي اسقاطها على مؤلف المسرحية ( قائد الفكرة ) الذي يجسد الشك والخوف والغموض ( شبح والد هاملت ) والذي يخشى الزوج ( المجتمع ) ادانته ومساءلته ( اسأله من انت ؟ )  ان ضعف هذا الزوج ( المجتمع ) هو الذي اتاح الفرصة للغريب ( الضيف ) ان يتمكن من سحبه الى منطقة المشارك في الجريمة ( وضع صفيحة البانزين في حضنه ) لقد ادرك الغريب ( الغازي ) ضعف الزوج ( المجتمع ) منذ اللحظة الاولى التي تسلل بها الى داخل المسرح ( مكانا ومعنى ) خلستا عن الحارس ولم يتخذ الزوج ( المجتمع ) قرارا بالرفض وطرد الغازي فورا , بل انه سمح له ان ينام على خشبة المسرح ( عقر داره ) وان يطعمه ماتبقى له من طعام ( ثروات المجتمع ) برغم تحذيرات الحارس , لقد الزوج ( المجتمع ) انسانيا وكريما وعطوفا بضعف لذا كان ساذجا وعلى هذا فأن الضيف ( الغازي ) عزف على وتر الانسانية بادء الامر , حتى استحال الى ثنائي ( لاحظ هنا ان صيغة المثنى في اللغة العربية هي صيغة جمع باللغة الانكليزية وهي لغة النص الاصلي للمسرحية ) وصار هذا الجمع - الثنائي - متحالف برغم الاختلافات الجوهرية في التاريخ والتوجه لكل منهما ( احدهما قتل المؤلف والاخر يحمل جهاز اشعال الحرائق ) الا ان كلاهما من ذوي الياقات البيضاء ( القمصان البيضاء ) غير ان احدهما في حقيقته يقود الموت والحريق ( يرتدي عباءة ملك حمراء ) وضمنا كان صوت رجل الدين يتخذ من اليأس ( الشموع المطفأة ) مذياعا لما لا يفهم ولا يجدي , فيما يطلق شرارة في غير موضعها , الا ان الغريبان ( الغزاة ) يظهرون مهاراتهم في الحركة واستقلاب اقطاب الحوار واشعال قدحة النار فجأة , لقد كانا متماثلين ( الملابس نفسها ) وغامضين ( القبعة والمعطف ) احدهما صار مجرما بدل ان يكون رجل قانون حين ساقته الاقدار الى معتقل حيث اهدروا انسانيته فتحول الى مجرم مضاد للمجتمع , وفي صورة اخرى لقيط في مأوى انه بلا تاريخ , بلا ماض نظيف , وفي صورة اخرى انه الساذج الذي لا يميز بين مفردات الحضارة ( الشرشف والمنديل والقنديل ) هو الذي يرد التحية بقبعته ( الطراز الاميركي ) والذي يرد التحية بمنديله ( الطراز البريطاني ) ان الغزاة مدمجين من الخارج والداخل كلاهما يحمل مبررا لا منطقيا , وكلاهما يؤدي الفعل نفسه لذا فأن دمج كل هؤلاء في شخصية واحدة ( مشعلوا الحرائق ) لم يأتي الا اجابة على سؤال : الى من يوجه اصبع الاتهام ؟
الحارس يؤشر الغفلة ويعلن الدرس , اما الجمهور المتلقي لهذا العرض المسرحي المتفرد , فمن سيؤشرون ؟ ومن سيتهمون سؤال مفتوح عسى ان لا يبقى جوابه طويلا " خارج نطاق التغطية "

ليست هناك تعليقات: