الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

الكاميرا الخفية... امام عدسة التحليلMonday, September 14, 2009

د. نهى الدرويش
هل انت ممن يتابع ويستمتع بمشاهدة برامج الكاميرا الخفية في التلفزيون ؟ اتريد ان تعرف لماذا تضحك على مشاهدها ؟ وما هي النهاية التي ستؤول اليها نفسيا وسلوكيا بعد (30) يوما من المشاهدة اليومية لهكذا برامج ؟ وما هو الخطر الذي يتربص بك جراء هذه المشاهدة المستمرة ؟

المقال التحليلي ادناه سيخبرك عن كل هذا .

قبل الحديث عن برامج الكاميرا الخفية  وكيف ظهرت لا بد  لك عزيزي القارئ ان تعرف متى وكيف ظهرت هذه البرامج ولماذا ؟ لذا ارجو ان لا تشعر بالملل من الاسطر القليلة الاتية :

يعود اهتمام الباحثين في علم دراسة السلوك الفردي والجماعي الى اكثر من قرنين ، الا ان المشكلة الكبيرة التي كانت تواجه هؤلاء الباحثين هي في كيفية دراسة السلوك ميدانيا وليس مختبريا وبخاصة ان معظم الظواهر السلوكية لاتبدو صريحة وواضحة وتلقائية اذا علم المفحوصين ( الاشخاص الذين تقع علهم التجربة ) انهم معرضين للتجربة ، لذا فقد تفنن الباحثين في اخفاء الاهداف الاساسية من بحوثهم على المفحوصين لحين اكتمال البحث ، والمهم في هذا ان كل الدول المعنية بهذه البحوث فرضت قوانينا واحكاما خلقية و ضوابط جزائية لتنظيم العمل في هذه البحوث ،اجد - عزيزي القارئ - من المهم جدا ان تعرفها بشكل مختصر ولعل اهمها هو عدم الحاق اي ضرر مادي او معنوي بالمفحوص ، وضرورة اعتماد الباحث على اقرار من المفحوص بموافقته على التطوع لاجراء التجربة البحثية عليه ، والزام الباحث بعدم الافصاح عن شخص المفحوص الا بموافقته ، والزام الباحث بدفع اجر متفق عليه مسبقا للمفحوص فضلا عن تقديم بعض الطعام والماء للمفحوص اذا زادت مدة التجربة عن ساعة او كانت في اوقات تناول الوجبات الرئيسة .

ومع تقدم وتوسع نطاق البحوث وتعقد ظواهر السلوك الانساني بسبب المستجدات التقنية والمعلوماتية ، زادت مشكلة دراسة السلوك امبريقيا
( على ارض الواقع ) بسبب المحددات القانونية ، حتى اعلنت بحوث الهندسة الوراثية وما احدثته من جدل قانوني و فكري وفلسفي واخلاقي وديني ، وشرعت المؤسسات البحثية وبخاصة ذات الاهداف السياسية غير المعلنة بالبحث عن طرق للالتفاف على القانون لاجراء بحوثهم الميدانية فيما يتعلق بالسلوك الفردي والجماعي ، وهكذا ظهرت فكرة الكاميرا الخفية ، اذ صارت هذه المؤسسات ترسم الاهداف والتمويل الانتاجي( من تحت الستار) فيما يقوم الكادر الفني بابتكار الطرق المشوقة للعرض ،وسواء كان الكادر المنفذ للعمل يعي او لا يعي بالاهداف الحقيقية
( التي غالبا ما تكون اهدافا لئيمة لان مخرجاتها تنطوي على تطبيق سياسة اقتصادية او دولية او حتى عسكرية) فهذا لا يهم لان هذه المؤسسات تمتلك من الخبرة النفسية والعملية بحيث تغلف عملها باحكام ودون السماح باي نسبة شك ، فهذه لعبتها حصريا ( واعطي الخبز للخباز ).

         تمثلت فكرة الكاميرا الخفية بداية بتعريض بعض المارة في الشوارع
( عينة عشوائية ) الى بعض المثيرات وتسجيل ردود افعالهم ، لذلك تلاحظ تعدد الاشخاص وتنوع الاماكن وهذا ما يطلق عليه ( الوقاية من تلوث التجربة ) اذ من الممكن ان تشيع في  الساعة نفسها في شارع ما وجود هكذا موقف ( مقلب) مما يؤدي الى معرفة المارة فتفشل التجربة لذا يتم تغيير المكان لعدم حدوث تلوث في التجربة . كما ان هذا التنوع يضمن العشوائية في اختيار العينة وبحسب المنطق البحثي فان العشوائية هذه تضمن التكافؤ بنسبة مقبولة منطقيا  في مدى تمثيل العينة لمجتمعها الاصلي (مجتمع البحث ) ، وعلى هذا يمكن تعميم النتائج ، ماذا يعني هذا ؟ هذا يعني ان اتصاف هذه المجموعة بسرعة الغضب مثلا يعني ان عموم المجتمع سريع الغضب ، وهنا تتطور النتائج للبحث عن الطرق التي تستفز الغضب ومتى واين، ومالذي يتلو الغضب هل هو الندم ام السخرية ام الاستمرار فيه ام العدوان والعنف، وكيف يمكن السيطرة عليه ومتى واين والى اي مقدار زيادة ام نقصانا . وعلى هذا تستطيع ان تقيس مختلف ردود الافعال التي تكمن خلف الموقف المفاجئ او الغامض اوسلسلة المواقف المتصاعدة بالشدة او المتكررة على نحو غامض الاهداف معرفيا على المتلقي ، تفحص عزيزي القارئ هذه المعايير وانت تشاهد برامج  الكاميرا الخفية فبامكانك ان تصل الى عشرات ومئات الاجابات ، فقط عليك ان تراقب بعين ناقدة موضوعية وتبحث عن الهدف الخاص من البرنامج بعد ان تتجنب سذاجة هدف المتعة ، متعتك ستكون اكبر بكشف ماوراء الستار وما وراء هدف المتعة المجانية ، وبخاصة اذا وضعت نصب عينيك الفرق بين الاهداف العلمية السامية والنبيلة والاهداف المؤدلجة اللئيمة ، فالباحث عن جرثومة بهدف اكتشاف مصل وقائي لها يختلف حتما عن الباحث عن تلك الجرثومة بهدف تطويرها واستخدامها سلاحا عسكريا بيولوجيا . ولا تستغرب عزيزي القارئ وتتساءل عن الجانب الاخلاقي في الموضوع لكلا الطرفين
( الباحث والمنتج ) لان الربح المادي يجمعهما بهدف واحد. كما ان استخدام الناس بوصفهم عينة فحص مختبري يتناقض مع المبدا الاخلاقي للبحث العلمي لانه يحولهم من مفحوص متطوع لخدمة العلم الى جرذ مختبرمخدوع لا حول له ولاقوة .


          واذا انتقلنا من هذا المحور الى محور المتلقي( المشاهد ) المستمتع بهذه البرامج فيمكن تصنيفه من وجهة نظر علم النفس الى ثلاثة انواع :

·   المتلصص: هو الذي يستمتع( يتلذذ )  بمراقبة سلوك الاخرين دون ان علمهم
بوصف السلوك الشخصي غير المقصود بالاعلان عنه من قبل ذلك الشخص هوخصوصيته العورية ، اي ان انتهاك هذه الخصوصية يسبب له افصاحا عن جوانب من شخصيته لا يرغب بالافصاح عنها لاسباب عديدة قد تكون خدشا لصورته العامة امام الاخرين او حتى امام ذاته مما يسبب له احراجا وخجلا ،  لذا فهي تعد عورة شخصية ، والفتشي يتلذذ بكشف هذه العورة ( هنا لابد من الاشارة الى ان العورة النفسية تعني خصوصية الفرد السلوكية المقصودة او غير المقصودة ولا تقتصر على المعنى الجسدي او الجنسي ) ، والكاميرا الخفية تسعى الى خرق هذه الخصوصية باسم المزحة .

·   السادي : هو الذي يستمتع ( يتلذذ) بايذاء الاخرين اجرائيا (ماديا او معنويا ) سواء هو من قام بالفعل او شخص اخر المهم ان تكون هناك ضحية تتعذب ، والحيرة والخوف والصدمة المفاجئة والقلق والتردد كلها عذابات تصدر عن ضحايا الكاميرا الخفية ، والسادي يسأل من يجاوره في المشاهدة التلفازية وغالبا ما يكون مقربا عزيزا  : لو كنت مكان هذا الشخص ماذا كنت ستفعل ؟ فاذا جاء الجواب مطمنا لساديته، تلذذ بتصور عذاب المجيب واذا حصل على جواب عقلاني معتدل تظاهر بعدم الاقتناع والرضى ، واحيانا يغلف السادي نفسه فلا يفصح عن رغباته وانما يتخيل من يحبه بدل الشخصية التلفازية المفحوصة ويسقط عليه ردود افعال مفترضة لذلك الشخص المحبوب من خلال ما يعرفه عنه من خصائص .

·   الماسوشي : وهو الذي يستمتع ( يتلذذ ) بايذاء ذاته ماديا او معنويا سواء هو من قام بالفعل او غيره ، وهنا يسعى الماسوشي الى تخيل نفسه بدل المفحوص ، وغالبا ما يستخدم الانكار لتغليف ذاته المسقطة على المفحوص فيقول : لو انا كنت مكانه لفعلت كذا وكذا في محاولة انكارية تحويلية لدرء التهمة عن ذاته ( تهمة التلذذ ) .

       وغالبا ما تسفر السادية عن هويتها بشكل صريح ومبطن في ان واحد في كثير من السلوكات بسبب اشراك الاخرفي الفعل او الصورة الذهنية او الاجرائية فيما تكون الماسوشية مناورة مع الذات ومشاكسة مع الذات الاخرى لتصدر الفعل المؤلم الذي غالبا ما يكون لا قصديا او كرد فعل على مشاكسة الماسوشي .
وارجو عزيزي القارئ ان لا ترتعب من هذه التحليلات وعليك ان تعرف ان النفس البشرية فيها من هذا وذاك بنسب متفاوتة والشخصية السوية هي الشخصية المتوازنة التي لاتتطرف في اظهاروتبني  السلوكات في حديها السلبي فقط او الايجابي المثالي فقط ،فكل الناس لديهم شتى الرغبات الخيرة والشريرة والمجتمع والتربية وتقويم الذات والمحددات الاجتماعية كلها تطمر الرغبات الشريرة او تمنعها من الاستفحال ،اما اذا توجه الاعلام-  بوصفه مؤثرا تربويا في الاتجاهات والقيم- بشكل معاكس وتحول من دوره البنائي الى دوره الهادم فهنا لابد لك من الوقاية والتسلح بالتفكير الناقد لكي لا تقع فريسة الوهم النفسي والامراض السلوكية ،  وهذا يعني انك لحد الان  لست متلصصا او ساديا او ماسوشيا ولكنك ستكون واحد من هؤلاء او كلهم مجتمعين اذا واضبت على مشاهدة الكاميرا الخفية لمدة ثلاثين يوما لانك بحسب قوانين السلوك النفسية سيتم تثبيت السلوك لديك بالتكرار ، واذا كنت صائما فالامر ادهى وامر لان من خصائص الصائم علميا انه  نفسيا متلقي وباعث ممتاز  لان الجانب النفسي والروحي لديه اكثر حساسية .

اما اذا سالت : لماذا اضحك عند مشاهدة هذه المواقف في برامج الكاميرا الخفية فساكون صريحة معك واقول : لانك تتلذذ بالجانب الاسقاطي لما تشاهد . لذا انصحك ان تكون مراقبا ناقدا  جيدا وصريحا لذاتك ولما حولك ولاحظ ان العلاقة طردية بين شدة الضحك وشدة الموقف الذي تعرضه الكاميرا الخفية
(بوصف الضحك سلوكا معبرا عن اللذة )

واذا انتقلنا الى المفحوص الذي تحول الى جرذ مختبري كما اسلفنا دون ان يعي ذلك ( وعذرا لكل ضيوف الكاميرا الخفية ) فهنا نلاحظ بوضوح بوصفنا مشاهدين ناقدين بموضوعية ظهورنمط الشخصية السائدة فهو اما سادي يواجه الموقف برد فعل عدواني اوعنيف او ماسوشي يواجه الموقف بالضحك ، ومهما حاولت الشخصية ادعاء التوازن الا ان عنصر المفاجأة والسرعة والمباغتة لا تتيح له الفرصة لاتخاذ موقف متوازن لذا يبدو له الموقف غامضا او متناقضا او متشابكا فيقع في فخ الحيرة والبحث عن تفسير عقلاني لاعادة توازنه النفسي والمعرفي .

وهنا علينا ان نلاحظ حجم الاحتمالات الهائلة التي تترتب على مخرجات هذه السلوكات وبخاصة لو جرى تعميمها على مجتمع محلي  كامل ، ولنأخذ المثال السابق وهو تحريض شعور الغضب ، متى يصل الى مستوى العدوان والعنف الجسدي لدى الشخص العراقي ؟ نلاحظ ان المفحوص ( الضيف ) يصل حد المبادرة بهذا السلوك عندما يواجه موقفا فيه اعتداء بدني او لفظي على امرأة
( مقدمة البرنامج ) ورغم ان هذه المرأة لا تمت الى الاخر بصلة دم او قرابة ، الا ان هذا الاعتداء يجسد اختراقا عدائيا للمنظومة القيمية الشخصية و الاجتماعية للمفحوص فماذا يكون رد الفعل العراقي ؟ نعم رد الفعل العراقي لان تكرار السلوك نفسه  مع ثلاثين عراقي يعطي صورة حقيقية يمكن تعميمها على كل المجتمع ، وهنا تم تشخيص الغضب من ابسط وادنى مستوياته الى اعلى واشد مستوياته او كما يعبر عنه احد برامج الكاميرا الخفية : الى حد انقطاع الدكمة وتمزق القميص غضبا ؟
وهنا نتساءل منطقيا : اكل هذا مزاح ؟ وما هذه السماجة التي تصل حد المساس بالمنظومة القيمية للشخص ؟ والتهكم عليه وسحبه احتيالا الى منطقة التجاوز على مقدرات الاخرين بعد التجاوز على مقدراته الشخصية ، علما ان من بين المفحوصين فنانين جديرين بالاحترام والتقدير من قبل عموم المجتمع العراقي

كما لابد ان نتساءل عن الجدوى من تفشي وباء الكاميرا الخفية في الفضائيات العربية وبخاصة العراقية ، فاذا كان الهدف علميا او سياسيا في الغرب معروف كما اسلفنا فما هو الهدف عندنا ؟ هل يعقل ان تبنى التسلية على مواقف بلا ضوابط اخلاقية ؟ وان يشتد الضغط النفسي بدل الموقف الواحد الى سلسلة مواقف ؟ تصل حد اكبر من الاحراج فتصل  الى التحريض والدفع لاستخدام الاسلحة
( حتى لو كان مسدسا كاذبا ) ، ماذا تريد ان تقول هذه البرامج وكيف تريد ان ترسم صورة مشوهة عن الانسان في مجتمعنا ، ومنذ متى اصبحت الكوميديا تشوه صورة السلطة التنفيذية ( متمثلة بالكلبشات ) بدل اعطائها الصورة الصحيحة من استخدامها للمحافظة على امن المجتمع ، فضلا عن تشويه صورة العدالة ( متمثلة بالمحاكمة ) بدل الدفع باتجاه التثقيف الحضاري لاحترام هذه الصور وتصحيح الخاطئ منها على ارض الواقع .

كما لابد ان تساءل : لماذا تستهدف هذه البرامج الفنانين بشكل اساسي  ؟ هل يعود هذا لسهولة الاتصال بهم ؟ ام لاستغلال حب الناس لهم ؟ ام لكونهم يتمتعون بقدر عالي من سعة الصدر والتسامح والطيبة ؟ وهل يدرك معدو هذه البرامج انهم يغذون الرغبة التلصصية عند المشاهد كون الفنانين نماذج متفردة ولها خصوصية محل استثارة من قبل المشاهدين ، ولماذا لا يتم استضافة شخصيات سياسية وتعريضهم للكاميرا الخفية ؟ هل تخشى الفضائيات من غضب السياسي وما قد يصدر عنه من ردود افعال عاجلة ام اجلة ؟ ولماذا لا يفكر معدو هذه الكاميرات بشكل ايجابي وذكي مثلا ان يقدموا للناس في الشارع اسم مرشح سياسي وهمي يقدم مغريات مادية لناخبيه ليفحصوا مدى موضوعية الناخب العراقي في اختيار مرشحه ؟ اليس التعرض الى قضايا ساخنة تقع في صميم اهتمام الانسان العراقي اجدى واكرم من التعرض لخصوصيات الاخرين وبخاصة الفنانين الذين يهبون كل حياتهم من اجل اسعاد وتوعية المجتمع واعادة توازن التاريخ بين الفعل القبيح والفعل الجميل من خلال بث الفرح والجمال والوعي بالافضل

اخيرا لابد ان نتساءل : ان من يعد ويقدم برامج الكاميرات الخفية هل يجرؤ على الاجابة ومناقشة الاسئلة اعلاه بصوت مسموع للجميع لكي يعرف المشاهد الحقيقة الكامنة خلف اعداد وتقديم مثل هذه البرامج وما اذا كانت تخضع لتخطيط وبرمجة وتقويم على الاقل من الجانب الاخلاقي الذي يحتم علينا ان لا نرمي ابناء مجتمعنا في مهاوي المرض النفسي والاسفاف الفكري ، ام هي بدعة من بدع العولمة تلقيناها بسلبياتها وزدنا عليها سوءا . وهل يعرف هؤلاء ان المجتمعات المتقدمة علميا وتقنيا لا تخلو فيها اي مؤسسة سياسية او اعلامية اوصناعية او تجارية من مستشار نفسي اجتماعي او تربوي لان التعامل مع الاخر يستوجب مهارة، سواء كانت هذه المهارة سلبية ام ايجابية والمهارة لاتأتي بالارتجال وانما بالعلم والتخطيط .
·       ملاحظة : هذا الموضوع ليس للنشر فقط وانما للمناقشة المفتوحة  مع كل الفضائيات التي تعتمد الكاميرا الغبية .

ليست هناك تعليقات: