الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

غياب الفلسفة وتشتت الخطط Sunday, May 10, 2009

د. نهى الدرويش

القاعدة المنطقية القائلة بـ «ضرورة تحقق المهم ،فالاهم ، ثم الاكثر اهمية» استنبطت من خلال ملاحظة السلوك الانساني المنظم والهادف سواء كان سلوكا عفويا ام مقصودا ، فمن ابسط نشاطات الانسان الى جدولة المواعيد الاعمال لاي فرد او منظومة ادارية الى الخطط السنوية ، جميعها تخضع لهذه القاعدة التنظيمية حتى وان كان هناك اختلاف في تفسير»الاهمية» اي كانت ، سواء فسرت من حيث الحاجة ام من حيث الدافع ام من حيث الضرورة ام من حيث الهدف ام من حيث الجدوى والفائدة ...الخ. وطبقا لهذه القاعدة صنفت الحاجات كهرم يبدأ بقاعدة عريضة تضم الحاجات الاساسية التي تمس حياة الانسان (لبقاء نوعه) مثل الحاجة الى الطعام والماء والنوم ... الخ وهي الحاجات الاكثر اهمية ، تليها الحاجة الى الامان (لحفظ نوعه) مثل الحاجة الى المأوى او المسكن والحاجة الى الامن الاجتماعي ....الخ

ثم تتصاعد الحاجات في الهرم الى الحاجة الى تحقيق الذات (مثل الحاجة الى العمل والانتاج والانجاز ) ثم الحاجة الى احترام الذات (مثل الحاجة الى الشعور بجدوى الحياة وفاعلية الانسان والمعنى من وجوده ) لينتهي الهرم براس الحاجات وهي الحاجات الجمالية (مثل الحاجة الى تذوق الجمال والفن والادب)
.
وطبقا لهذا التصنيف فان الانسان تظهر لديه اكثر الحاجات اهمية من قاعدة الهرم (الحاجات الاساسية) فاذا ما اشبعت هذه الحاجات ظهرت الحاجات التي تليها وهكذا ... بحيث لا يصل الى قمة الهرم (الحاجات الجمالية) الا من اشبعت لديه جميع الحاجات السابقة لها في طبقات الهرم .

لقد احدثت هذه النظرية (نظرية ماسلو للحاجات ) ثورة في الفكر الراسمالي ، اذ على الدولة ان توفر الحاجات الاساسية والحاجة الى الامان لكل افراد المجتمع بدل التنافس على لقمة العيش والمأوى ، واعتبرت التنافس الفردي يبدأ من الحاجة الى تحقيق الذات وتوكيدها بوصف الانسان كائن متمدن يتنافس في العمل والانجاز اما التنافس على الطعام والمأوى فهو من خصائص عالم الحيوان فما دون في سلم الارتقاء النوعي.
وطبقا لهذه النظرية فان العمل بموجب البطاقة التموينية لابد ان يشبع ويؤمن حاجات الفرد الاساسية من الطعام كما ونوعا وليس جزءا منها ، وراتب الضمان الاجتماعي لابد ان يؤمن لقمة العيش والمأوى في حدودها المتوسطة كما ونوعا ، كذلك فان دور الدولة لرعاية الاطفال فاقدي الرعاية الاسرية من الايتام او المشردين او ضحايا العنف ودور المعوقين والعاجزين ودور المسنين لابد ان تؤمن المأوى والطعام لهذه الشرائح ، فضلا عن تحقيق الامن الاجتماعي والرعاية الصحية والضمان الصحي كل ذلك يقع في صميم مسؤوليات الدولة.
هذه الحاجات لابد ان يؤمنها لافراد المجتمع كل نظام سياسي – اقتصادي سواء كان راسماليا او ليبراليا او اشتراكيا او دكتاتوريا او ديمقراطيا ذلك لان اقل ما يمكن ان تقدمه الحكومة للشعب هو ضمان اشباع هذه الحاجات لحفظ بقاء هذا الشعب على مدى الحياة بوصف الشعب العنصر الاساسي في بنية اي دولة اذ لا يمكن ان تقام دولة دون وجود شعب ، واضافت الفلسفة الديمقراطية على ذلك بان الشعب هو مصدر السلطات وان العقد الاجتماعي الضمني المبرم بين الناخب والمرشح ويحتم على المرشح السياسي ان يستعرض في برنامجه الساسي والاقتصادي والاجتماعي ما يمكن ان يقدمه للشعب من ضمانات لتأمين جميع الحاجات وبخاصة الحاجات الاساسية والحاجة الى الامان.

وطبقا لهذا فان برنامج المرشح السياسي لا يكون برنامجا بلاغيا بل برنامجا علميا ذو اهداف واضحة ومحددة وقابلة للتحقق والقياس والتقييم كما انه لابد ان يتضمن اليات العمل بشكل صريح وشفاف وواضح وواقعي مثلا : عندما يذكر المرشح السياسي في برنامجه انه سيؤمن راتب ضمان اجتماعي للعاطلين عن العمل ، لابد ان يعرف العاطل عن العمل برايه ثم يذكر عدد العاطلين عن العمل في المجتمع ومقدار ذلك الراتب ويأخذ كل ذالك بنظر الاعتبار في الموازنة المالية للدولة ، فاذا اخفق المرشح عند فوزه في الانتخابات في تحقيق ما ورد من وعود في برنامجه ولم يوضح بشفافية وامام وسائل الاعلام الاسباب الموضوعية لاخفاقه او تلكؤه امكن للشعب سحب الثقة منه واقالته (ذلك ان سحب الثقة منه يعني انه غير مؤهل لنيل ثقة الشعب فيما وعدهم بوصفهم الطرف المتعاقد     (


وعلى الرغم من فاعلية نظرية الحاجات هذه وتطبيقاتها العملية فقد وجهت اليها انتقادات كثيرة منها : ان هناك الكثير من الافراد يصلون الى تحقيق الحاجات الجمالية في قمة الهرم برغم ان حاجاتهم الاساسية غير مشبعة فكم من فيلسوف وكم من فنان واديب هم شبه جياع وشبه مشردين، لذا تم اعتبار هذه الشريحة مستثناة من التدرج الحتمي في اشباع الحاجات الهرمية واطلق على عملية ارتقائهم المباشرة نحو قمة الهرم «بالتسامي»والزمت الفلسفة الديمقراطية على الدولة رعايتهم (العباقرة والموهوبين والادباء والفنانين ) وبما ان اي دولة وبسبب الموازنة المالية غير المستقرة لها عبر السنين ربما قد تعجز او تتلكأ في تامين متطلبات الحاجات الاساسية والحاجة للامان لكل افراد المجتمع بلا استثناء لذا تم ابتكار المؤسسات المدنية (الدينية والاجتماعية والخيرية ) لتقديم الدعم والاسناد الى الشرائح الاكثر حاجة والاهمية في المجتمع ، اذ يقع على عاتق الاغنياء – مقابل الاعفاء الضريبي التصاعدي – بناء وادارة دور لرعاية الاطفال المشردين وفاقدي الرعاية الاسرية والمعوقين والمسنين وتأمين الطعام والمأوى والعلاج الطبي لهم وباشراف ومتابعة مستمرة من قبل جهات متخصصة ، كما تقوم بعض هذه المؤسسات بتقديم الدعم والتطوير وفرص العمل لشريحة الموهوبين والمبدعين ، لذا فان كل برنامج سياسي يقدمه المرشح لابد ان يتضمن مقدار دعمه لمؤسسات المجتمع المدني كما ونوعا.
ان فلسفة التتالي والتتابع التي استندت عليها نظرية الحاجات لماسلو وضعتها في صنف الفلسفات الواحدية ، ومع تنامي الوعي الحضاري لدى الانسان وظهور الفلسفات الانسانية جعلته يطالب بتأمين عدة حاجات في آن واحد وليس حاجة بعد الاخرى ، كما انه بدأ يفكر باشراك اخيه الانسان في المجتمع العالمي بضرورة واهمية تأمين حاجاته فانبثقت المنظمات الدولية للاغاثة والصحة والتعليم وامام اهمية المواقف والحاجات الثنائية والمتعددة وتشارك المجتمع مع الحكومة في تحقيق الاهداف العامة للدولة وتجسيد فلسفتها، صار من العسير ترتيب اهمية المواقف والحاجات على وفق المهم فالاهم فالاكثر اهمية ، فضلا عن تداخل هذه الاهميات وصعوبة تحقق واحدة منها قبل او بعد او بدون الاخرى في التخطيط الستراتيجي ، على سبيل المثال ان النهوض بالواقع الاقتصادي للفرد في اي مجتمع لا ياتي عن طرق الحلول الاقتصادية الصرفة ما لم يتزامن معه الوعي والتدبير الاقتصادي وتحسين ظروف الصحة العامة والاوضاع الاجتماعية المرتبطة بها ، لذا توصل العقل العلمي الى استنباط قاعدة ماسية جديدة طورت واكملت القاعدة السابقة وتتمثل هذه في فلسفة المتوازيات المصاحبة اي «اطلاق الاهميات جميعها بشكل متواز اذ من شأن الانطلاق الجمعي ان ينتج تأثيرات مصاحبة تزيد من فاعلية التأثير الايجابي نحو تحقق الاهداف المتوازية في الاهمية في اقل وقت واقصر زمن «.

وهكذا تم اعتماد هذه الفلسفة في النظرية الديمقراطية الانسانية الحديثة والتي بموجبها صارت تصاغ الخطط والستراتيجيات السياسية والاقتصادية بعيدة المدى ، بحيث يوضع هدف عام تتفرع منه اهداف ثانوية ويتم تحقيق كل هدف ثانوي من خلال ستراتيجية واحدة وتتضمن كل ستراتيجية برامج عدة وكل برنامج يتحقق من خلال خطط عامة وخطط فرعية تفصيلية توضع لها الاليات والادوات والموارد المالية المناسبة ليتم تحقيقها في اطار عملية تقويم شاملة ومستمرة واجمالية


لذا لابد لكل وزارة من ستراتيجة وبرامج وخطط جميعها تخضع لاهداف محددة وواضحة وقابلة للقياس والتقويم ، يمكن بمجموعها ان تحقق الهدف الاساسي للستراتيجية الذي هو هدف ثانوي في ستراتيجية الدولة وبذلك يمكن ان تعمل ستراتيجيات الوزارات جميعها بشكل متواز دون غلبة اهمية واحدة على الاخرى مع حفظ الموازنة الواقعية والمنطقية بين الستراتيجيات عبر السنوات.

ان هذه الالية التي يعرفها المخططون جيدا ويجهلها او يتجاهلها المشرعون والمنفذون هي الضمانة الوحيدة التي تعطي للدولة هيبتها وصدقيتها امام شعبها وامام المجتمع الدولي، وهي الضمانة الوحيدة التي تلزم البرلمانات والحكومات – على تعاقبها – بالتزام اهداف الدولة العامة التي ترسم السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية والصحية لكي يبقى عمل البرلمان والحكومة عملا تطويريا وتفعيليا ولا ينحصر دوره بالبدء من نقطة الصفر في كل دورة انتخابية او في كل تشكيلة وزارية.


وكل هذا بالتالي يحتاج الى فلسفة دولة واضحة يصاغ بموجبها الدستور فلا تقع مواده وفقراته في الغموض والتناقض او فريسة للمحاصصة السياسية وهنا تكمن العلة.


فاين هي فلسفة دولة العراق الحديث وما هي النظرية الديمقراطية التي يعتمدها ؟ اين هي الاهداف العامة للدولة ؟ وكيف سيكون واقع مستقبل الفرد العراقي اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وتربويا ؟ هل هناك خطط ستراتيجية عشرية او خمسية في اقل تقدير ؟ هل تسير هذه الخطط بشكل متتالٍ كما في اولوية تحقيق الامن ثم الاعمار ؟ ام بشكل متواز.
لا يبدو كما يظهر لنا الواقع ان هناك تبنياً حقيقياً لاي من هذين الاتجاهين فلا منطق علمي مثلا يحكم اهمية انشاء متنزهات ومسابح وملاعب ورصف ارصفة ذاتها مرات عدة قبل او بدون توافر مشاريع تربوية او صحية او خدمية او اقتصادية او زراعية
!

هل يمكن القول ان العراق في طريقه لوضع فلسفة عشوائية ستكون القاعدة والركيزة التي تستند عليها خصوصية الدمقرطة التي يتبناها المنفذون بلا تخطيط؟


ارى ان هذه المشكلة تكمن في اربعة حلول متوازية الاهمية :
*
الزام المرشحين بتقديم برامج سياسية واقعية وصادقة ودقيقة بحسب معايير موضوعة سلفا.
*
حث اعضاء مجلس النواب في الدورة الانتخابية القادمة على عزل اجنداتهم الشخصية والحزبية والتوصل الى رسم سياسة الدولة وتحديد فلسفتها ووضع اهدافها بعيدة المدى.
*
اجراء التعديلات الدستورية على وفق فلسفة الدولة وليس على وفق ترتيب الاهميات والحاجات والتوافقات الحزبية.

*
اعتماد التكنوقراط في عملية التخطيط والتنفيذ والتقويم واعتمادهم على البحوث والدراسات والاحصائيات الدقيقية

ليست هناك تعليقات: